نرجع الخرطوم و اللا لا؟
كتب الصحفي عثمان فضل الله مقالا تحت عنوان “نرجع الخرطوم واللا لا؟ نرجع السودان واللا انت رايك شنو؟” قائلا: سؤال بات يتكرر كثيراً في المجالس الصغيرة ومحادثات الماسنجر والواتساب، وغالباً ما يُلقى من صديق أو قريب بصوت مفعم بالحنين، لكن تحته نبرة حيرة ممزوجة بالخوف والضياع. المفارقة المحزنة أن مَن يُوجَّه إليه السؤال، في الغالب، لا يقل حيرة عن السائل.
ربما يكون من السهل اللجوء للإجابة النموذجية: “العودة قرار شخصي، تعتمد على ظروف كل فرد، وقدرته على التكيّف في مكان اللجوء أو النزوح، ومدى توفر الأمان والمعيشة في الخرطوم أو أي مدينة سودانية أخرى.”
لكن من يُطلق هذا السؤال، في الحقيقة، لا يبحث عن إجابة تقنية باردة. هو يعرف كل ما يُقال. إنما يعبّر عن شيء أعمق: صراع داخلي مرير بين الرغبة في الرجوع، واللا جدوى من الرجوع.
بين الحنين والمخاطر
العودة ليست مجرد قرار لوجستي أو حساب للموارد. إنها معركة قلب وعقل. فهناك من لا تزال مفاتيح بيته في جيبه، وصورة جداره في رأسه، وشجرة النيم في حوشهم لا تزال ترنو إليه. وهناك من دفن والدته في تراب منطقة اللجوء او النزوح، ومن ينتظر أن يكحل عينيه ببيته وفي السودان البيت ليس مجرد جدران ونما رحلة كفاح وحياة نجاحات وانكسرات البيت في السودان قصة طوييييلة.
لكن على الضفة الأخرى، لا تزال الحرب قائمة. المدن لم تعد مدنًا، بل خرائط دمار، وساحات نزاع، ومراكز نفوذ متنازع عليها. مؤسسات الدولة تلاشت أو تحولت إلى رماد، وسلطة القانون غابت، فيما تحكم الشوارع قوانين البندقية والمليشيات.
العودة في هذا الظرف، قد لا تعني فقط العودة إلى المكان، بل إلى دائرة الخطر والقلق والانعدام التام للاستقرار. لا شيء في السودان اليوم يوحي بأن الأرض تحت الأقدام ثابتة، أو أن المستقبل في الأفق واضح.
العودة ياسيدي تقديرات فردية في سياق جماعي
صحيح أن العودة قرار فردي، لكن هذا القرار لا ينفصل عن السياق الجماعي. فالسوداني اللاجئ في القاهرة أو نيروبي أو أديس أبابا أو شتات أوروبا، ليس فردًا معزولًا، بل جزء من مجتمع مشرّد يبحث عن معنى جديد للحياة، ويقاوم يوميًا تمزق الهوية وانطفاء الحلم.
البعض اختار العودة بالفعل، إما لأن الغربة ضاقت عليه، أو لأنه لم يستطع تأمين لقمة عيش في المنفى، أو لأنه أراد أن يكون قريبًا من مكان الفه، أو ليحاول التمسك بما تبقى من حياته هناك. لكن أغلب هؤلاء عادوا ليواجهوا صدمات أكبر، وانقطاعات خدمية، وتهديدات أمنية، وغياب الأفق السياسي والاقتصادي.
السؤال أحيانًا يُطرح وكأن الخرطوم هي المعادل الوحيد للعودة، لكن الواقع أن كثيرًا من العائدين يبحثون عن ملاذ في مناطق أكثر هدوءًا نسبيًا، كمدن الشمال أو بعض مدن الجزيرة. ومع ذلك، فإن هذه المدن نفسها لم تعد بمنأى عن تبعات الحرب، من تضخم غير مسبوق، إلى انهيار الخدمات، إلى ضغوط النزوح الداخلي التي غيرت ملامح المجتمعات المحلية.
حتى المناطق التي لم تدُر فيها معارك مباشرة، باتت تتحمل أعباء مئات الآلاف من النازحين، ما تسبب في ضغط على الموارد، وخلق مشاعر تذمر خفية، وأحيانًا صدامات اجتماعية صامتة.. ليست العودة قرارًا سهلاً، ولا ينبغي أن تُحمّل للنازحين واللاجئين وحدهم .. وحدهم كعبء أخلاقي أو وطني. السؤال الحقيقي ليس: “هل نعود أم لا؟”
بل: “هل يمكننا أن نعود بأمان وكرامة ووضوح رؤية؟”
هذا السؤال لن تُجيب عليه الأسر وحدها، بل يجب أن يُطرح على القوى السياسية، والمنظمات الإنسانية، والمجتمع الدولي، وكل من بيده جزء من مسؤولية إعادة البناء أو وقف الحرب.
عودة النازحين واللاجئين ليست قضية تكميلية أو ديكور يجمل الكذبة الكبرى، بل هي قلب أي مشروع سلام حقيقي. لا يمكن الحديث عن انتقال سياسي أو تسوية شاملة، بينما ملايين العيون معلقة على حقائب لم تُفتح بعد، ومنازل ما زالت تنتظر أصوات أصحابها.
العودة ياصديقي ليست مجرد حركة من مكان إلى آخر. إنها قرار بحجم وطن.
وطالما بقيت الحرب مستعرة، والانقسام سيد المشهد، فإن السؤال سيظل يتردد في المجالس والمحادثات: “نرجع ولا ما نرجع؟” وستظل الإجابة، مهما حاولنا فلسفتها، محفوفة بالحيرة. لكن ربما،، حين يهدأ الرصاص، ويجف الحزن، وتُفتح أبواب الوطن لكل بنيه، ستتحول الحيرة إلى يقين، ويعود الجميع لا إلى بيوت فقط، بل إلى وطن يستحقهم ويستحقونه.