فيما أرى- عادل الباز- أيام مع محجوب.. يموت الرجال.. وتبقى المآثر(١)

0

(1)

كنا فى ذلك الفجر نجلس قبالة ساحل الأطلنطي وأسئلتي تتدفق على مسامع الأستاذ محجوب محمد صالح كما تتدفق أمواج البحر خارج شواطئها. كان يبتسم حيناً ويغضب ويضحك أحياناً كثيرة. هناك تعرفت على الأستاذ حقيقة وتاريخيا، شخصا فكها وروحا لطيفه أهدته الصحافة أجمل لحظات عمره وعاش في ظلالها كل حياته، شقي وسعد بها حتى آخر أيام عمره. 

 كنت حريصا في تلك الجلسة أن أفهم ما لم أفهمه أو ما لم يفصح عنه المؤرخون من قصص التاريخ السوداني وما  أكثر المسكوت عنه في تاريخنا ومن غير محجوب الذي عاش حياته العريضة فى دهاليز الصحافة والسياسة زهاء السبعون عاماً، رئيساً لتحرير واحدة من أعرق الصحف السودانية ( الأيام ١٩٥٣) ويالها من حياة شاقة وثرية. وحين أتذكر الآن تلك الجلسة الما منظور مثيلها (رحم الله السر قدور وجلساته في أغاني وأغاني.) وحين اتذكر أنني لم أدوّن تفاصيلها لحظتها أشعر كأن ملحاً مخلوطاً بتراب يعلق بحلقي.

(2)

كانت تلك الجلسة على ضفة  الأطلنطي في يونيو ٢٠٠٧ بمدينة كيب تاون الساحرة حيث كنا نحضر سوياً مؤتمر (مستقبل الصحافة في العالم)، انعقد المؤتمر بعد هدير أمواج التكنولوجيا التي مثلت وقتها خطرا داهما على الصحافة الورقية (هاهو الأستاذ يرحل أول أمس وها هي الصحافة الورقية تكاد تقتلها الأسافير بتسفلها وأخبارها المغشوشة). رحمة الله عليك مضيت يا أستاذ في الوقت المناسب، غادرت حين رحلت عن الدنيا تلك التي عشقتها وأفنيت حياتك فى تأسيسها ورفعة مقامها.

(3)

كان الأستاذ محجوب قد رشحني من بين عشرات من أصدقائه وتلاميذه للمشاركة فى تلك الندوة العالمية التي يحضرها كبار الصحفيين والناشرين في العالم، كنت قد استغربت ذلك منه لأول مرة، إذ أن علاقتي بالأستاذ محجوب لم تكن عميقة بما يكفي، وكنت التقيه دائما فى ورش وقاعات التدريب الصحفي واذهب إلى مكتبه أحياناً بسوق نمرة ٢ مستفسراً عن معلومة أو لنقاش في رأي طرحه في مقاله اليومي  بزاويته الشهيرة (أصوات وأصداء).. وكنت دائماً أجد عنده الرأي السديد ونفس التحليل الموضوعي المستند على معلومات وهو في ذلك مدرسة قائمة بذاتها ليس لها مثيل.

(4)

استغربت حين رشحني للمشاركة فى  ذلك المؤتمر العالمي، لم يرشح أحد تلاميذه الكثيرين، وكان من قبل قد قام هو وأستاذي الطيب حاج عطية بترشيحي لجائزة  أفضل مقال صحفي في ذلك العام (٢٠٠٦) التي تشرفت بنيلها وسط ساحة تضم عشرات الكتاب بلا شك فيهم من هو أفضل مني بكثير.

لم أفهم سر ترشيحه لي لذلك المؤتمر ولم يقل لي وحين تجرأت وسألته عن سبب ترشيحه لي للجائزة وللمؤتمر قال لي (أنا لم أرشحك، رشحك أدائك في الساحة الصحفية). فصمت وشكرته وأدركت أن هناك من أساتذة الصحافة الكبار والذين هم في الضفة الأخرى يقدر مجهوداتنا المتواضعة في سبيل الرقي بالصحافة السودانية. حمداً لله وشكراً للأستاذ طبت حياً وميتاً.

(5)

كان المؤتمر المذكور أعلاه عاصفاً، تنوعت فيه الآراء والاتجاهات والاقتراحات على أن مداخلة الأستاذ محجوب كانت مبهرة لكل الحاضرين للجلسة، فلقد استل الأستاذ محجوب من خبرات السنين في أروقة الصحافة السودانية العبر والدروس، وكان قادرا على قراءة آفاق المستقبل. وما ميز مداخلته تلك التي لا زلت أذكرها أنه لم يغرق في بحور اليأس والتشاؤم اللتين سادتا المؤتمر، كان مؤمناً أن الصحافة ستصمد وإن تغيرت أشكالها وطرائق أداءها إلا أن رسالتها – وهذا جوهر وجودها – ستستمر ولن تتوقف ولقد صمدت من قبل في ظل متغيرات عاصفة بدأت بظهور الاذاعة والتلفزيون وفي عصرهما ظلت الصحافة منافسة وتطور نفسها باستمرار وتكيفت مع التطورات التكنولوجية عبر كل الأزمنة.

(6)

كنت قد تجرأت في ذلك المؤتمر بطرح فكرة.. بدت غريبة وخاصة أن الجلسة التي طرحت فيها تلك الفكرة كانت منعقدة تحديداً حول مستقبل الصحافة في أفريقيا وقتها قلت إن مخرجنا أن نبيع الصحيفة مرة واحدة للمعلن، ونهديها للقارئ مجاناً. واذكر أن الأستاذ محجوب قد ضحك وقال (ياعادل هذه فكرة مجنونة لن يقبل أحد ولن يطبقها أحد في أفريقيا قد تنجح في قارة أخرى ولكن في أفريقيا لن يكتب لها نجاح.). تمسكت برأيي وأصريت على تنفيذ الفكرة التي آمنت بها وقتها ولم استمع لنصح الأستاذ محجوب. وبالفعل نفذتها في صحيفة الأحداث (٢٠٠٧) التي ظلت توزع لثلاثة أشهر مجاناً وحدث ما حدث لـ(الأحداث)  بعد ذلك، وتلك قصة أخرى لابد أنني رويها يوماً  ما إن شاء الله. نواصل

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.