ضباط رفيع بالجيش السوداني يكتب: الجو مرتبك وغير مفهوم
كتب العقيد ابراهيم الحوري رئيس تحرير صحيفة القوات المسلحة السابق، مقالا بعنوان “17 مايو للعام 2023:
الجو مرتبك وغير مفهوم كحال كل الناس،ما بين سموم يلفح ونسمة باردة من وقتٍ لآخر..السماء تكون صافية،وفجأة يُكدر صفوها صوت الرصاص والمدافع من على البعد و تصاعد أعمدة الدخان من شرق الخرطوم…
هذا هو جناح العمليات بسلاح المدرعات،جدران بدأت تظهر عليها شقوق متمردة، مروحة تدور ببطء وتثاقل،أصوات متداخلة من أجهزة الإتصالات الهايتيرا التي مع قائد الجناح لن تستطيع فهمها..
طاولة موضوعةٌ بها صحانة “عدس” وقليلٌ من الخبز..”فحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه”…
كل ضباط المأمورية التي تستعد للخروج إكتملوا إلا ضابطاً واحداً…يبدأ ركن شعبة العمليات الرائد “البهرة” بشرح المطلوب منا وخط السير أثناء التقدم، فالدبابات تغطي هُنا،والعربات المدرعة تنفتح شرقاً والمشاة يغطون على ذلك الجانب،وكونوا قرب عساكركم وحمسوهم…
فجأة صوت ضربة على الأرض مع تحية عسكرية من ملازم يطلب الإذن بالدخول…ضربة الرجل هذه يمكن أن تُقاس بمقياس ريختر..! هذا هو حماس الملازمين المعروف كما يقول النقيب علاء الدين…
لقد كان هو الضابط الناقص من القوة أول مرة أراه،هادي، الملامح،طويل القامة،لا تسمع له صوتاً،بالغ التهذيب…إعتذر بأدبٍ جم عن تأخيره لأن أحد أفراد قوته أُصيب وأضطر أن يأخذه بنفسه للوحدة الصحية…
بصوت ساخر يُعلق الرائد أحمد إبراهيم “دة يا جنابو بقا تريند الأيام دي في الفيس بالفيديو بتاعو دة،تقوم تختو في الإيقاف بكرة يجوك يترسو ليك، الملازم دة حشش وإتضرع وما إتقى الله”…تلا كلامه ضحكات مجلجلة-كان هنالك فيديو أول إسبوعين في الحرب طاف كل البيوت ودخلها لملازم يحتضنه مواطنين بمنطقة الحماداب بعد أن أنزل قناصة للعدو في هذه المنطقة وأشتبك معهم بقوته…هذا هو الفيديو المقصود-
يرد على الرائد “تلك تحشيشة مبغوضةٌ إلا في سبيل الله يا سعادتك”…أعجبتني البلاغة والإقتباس في رده ولم أتمالك نفسي “مبروك يا تريند”…
المأمورية تخرج لتشاهد أمامك جبلاً من الثبات،قائداً يوجه ويصحح كما لو أن خدمته في الحروب قرابة ال30 عام،وهو حديث التخرج لم يكمل عامه الأول بعد…
في ال 21 من شهر أغسطس لنفس العام،بعد الهجومات الكثيفة المتتابعة على سلاح المدرعات، اليوم الثاني من الهجوم..بعد أن أُخرج كل المصابين من المستشفى فقد آلت إلى السقوط في يد العدو إحتضن أهالي الحماداب وبيوتهم كل المصابين ووزعوهم بينهم..
الجنود والضباط هائمون في الشوارع،وبلغت القلوب الحناجر،كل القوة تنسحب لأن هنالك تعليمات إنسحاب أتت لكي يتمكن الطيران من التعامل..ممن التعليمات؟ لا إجابة…
خمسون جندي وضابط صف،يتقدمهم ملازم واحد،جمعهم في شارع من شوارع الحماداب وبدأ يُحمس فيهم “ما عندنا إنسحاب،يا نموت كلنا،يا نكتب التاريخ ويتسجل إنو المدرعات رجعوها خمسين نفر ووقفوا قصاد ألوف”…الصوت مسموع وجهور،يخرج المصابون من البيوت ويحمسوا إخوانهم وأعينهم تفيض من الدمع حزناً أن ليس بأيديهم شيء فيقول لهم “إدعوا بالثبات”…
نساء الحماداب يزغردن كما لم يفعلن من قبل،الرجال يجهرون بالتكبير،والرجال إلى داخل المدرعات…
لقد صدق وسجل التاريخ،خمسون رجلاً الله معهم وثبت قلوبهم فأعدوا سلاح المدرعات،خمسون بايعوا على الموت فغيروا مجرى التاريخ،خمسون لن تعرفهم أنت ولا حتى أنا الذي كنت شاهد عيان لن أعرف منهم أكثر من عشرون،والبقية الله يعلمهم، وهنالك الخمسة الذين دخلوا إلى قلب العدو شرقاً بقيادة الرائد الشهيد منير،لنا عودة لهم…
بعد مدة أُصيب وأُجلي إلى السلاح الطبي،لم يُكمل شفاءه فأراد أن يُعطي أهل المهندسين “تكساس” قليل من نفحات ثبات المدرعات فكان يتقدمهم في كل طلعة هجومية كما لو كان الأمر تحدياً،فقد كان تحدياً مع الموت…
في بدايات شهر يناير بمنطقة المهندسين العسكرية إرتقى شهيداً الملازم/منذر عبد المنعم …إبن الدفعة 67 التي تقدم الشهيد تلو الشهيد،إبن المحمية بنهر النيل،أو بولاية 56 كما يُسميها الجاهزية…الغريب أنني أتيت ماراً بمنطقة المحمية وتعجبت،توقعت أنني سأرى ما يُضاهي نيويورك الأمريكية أو على أقل تقدير قرية كقرى الريف البريطاني…
الناس فيها على درجة بسيطة من مطلوبات الدنيا،يبدو أنهم لم ينجروا للتبرير لأن هنالك درجة من الظلم لا ينفع معها التبرير…
إستشهد وهو ينطق بشهادته ورافعاً صوته بالتكبير والتهليل وكأنه يقول لهم “اليوم أكملت لكم جهادكم،وأنتم على الدرب”…
منذر وصحبه أولى أن تُعلق صورهم بعد الحرب عند مداخل كل مدينة ويُكتب تحتها الآية القرآنية “ولا تنسوا الفضل بينكم”…
وإلى الساسة مجدداً..لا تأكلوا عرق الرجال ودماءهم…
#المنذر_شهيداً