استقرار سعر صرف الجنيه السوداني رغم الحرب لماذا؟
كتب مصعب عوض محمد خير.. شهد سعر صرف الجنيه السوداني استقرار ملحوظ عند مستوي 2600 لأكثر من تسعة اشهر حاليا كواحدة من أطول فترات الاستقرار في العشرة سنوات الأخيرة علي رغم ظروف الحرب الغير مسبوقة وهو امر غير متوقع اطلاقا لأكثر المتفائلين ولكن لماذا؟
بالنظر للميزان التجاري فأن العجز فيه قد تراجع من 6.7 مليار في عام 2022 الي 3.7 مليار دولار في 2023 ثم تقلص العجز ل 1.7 مليار دولار بنهاية 2024 كأقل عجز في الميزان التجاري منذ انفصال جنوب السودان في 2011م.
بشكل مطلق فأن تراجع العجز في الميزان التجاري مؤشر إيجابي ولكن علم الاقتصاد لا يحتمل تسطيح الأمور بل يجب التدقيق والوقوف علي الأسباب حتي نستخلص القراءة الصحيحة ، فتقلص العجز جاء نتيجة لتراجع الاستيراد بوتيرة اكبر من تناقص الصادرات ، فبينما شهدت الصادرات في 2024 تراجعا ب 16% فقط مقارنة ب هام 2019 تراجعت الواردات ب 47% خلال نفس الفترة، وتناقص الواردات يعني تراجع الطلب علي النقد الأجنبي وبالتالي تقليل الضغط علي سعر الصرف.
تحليل الميزان التجاري لتفسير استقرار سعر الصرف لا يسبر غور المسألة ويقدم عاملا واحد فقط من العوامل المفسرة ، وعلي عكس الاعتقاد السائد فأن الميزان التجاري والصادرات والواردات ليست اكبر محرك لسعر الصرف واي توجه لمعالجة استقرار سعر الصرف عبر زيادة الصادرات او تخفيض الواردات هو توجه قاصر عن فهم السبب الأساسي والمحرك الحقيقي لسعر الصرف والتضخم معا الا وهو النمو في عرض النقود.
القاعدة النقدية هي افضل مؤشر لقراءة تطورات عرض النقود لأنها تمثل ما يتاح التحكم فيه بشكل مباشر من خلال السياسية النقدية وتتأثر بشكل مباشر بالسلوك الحكومي ممثل في السياسة المالية وبالنظر للنمو في القاعدة النقدية خلال عامي الحرب23 و2024 فقد كان 60% و89% علي التوالي وهي نسبة نمو كبيرة بالطبع ولكن لا تنخدع ولا تكتفي بالوهلة الاولي في الحقيقة هذه الأرقام تقول الكثير.
ففي ظروف حرب تعطلت فيها الإيرادات الحكومية بشكل كبير جدا من المتوقع ان تعتمد الحكومة في تمويل صرفها الأساسي علي الاستدانة من البنك المركزي بشكل غير مسبوق وبالتالي ان تشهد القاعدة النقدية وعرض النقود نموا غير مسبوق أيضا ولذلك جاءت هذه الأرقام صادمة بالنظر الي كونها ارقام عامي الحرب حيث ان النمو في القاعدة النقدية خلال السنوات الخمسة التي سبقت الحرب من 2018 الي 2022 كان علي النحو التالي. 170%، 77%، 100%، 160%،34% علي التوالي أي ان أداء السياسة النقدية في عامي الحرب افضل من الأداء الإجمالي للفترة التي سبقت الحرب وعلي عكس الميزان التجاري الذي يمكن تفسير تحسن العجز فيه بتراجع الطلب خلال الحرب فأن نمو عرض النقود باعتبار ان اكبر عامل مؤثر فيه هو عجز الموازنة و استدانة الحكومة من البنك المركزي كان من المتوقع ان يشهد انفجار كبير في ظل تراجع الإيرادات وتزايد الانفاق لتمويل المجهود الحربي
اذا السياسة النقدية للبنك المركزي ممثلة في التحكم في نمو عرض النقود بأقصى ما تسمح به الظروف شكلت عاملا مفسرا هاما واساسيا في استقرار سعر الصرف الحالي، ويأتي تراجع الواردات وانخفاض الطلب عاملا مكملا.
من المتوقع ان يشهد الاستيراد تزايدا مستمرا خلال الفترة المقبلة نتيجة لتحسن الطلب وعودة ملايين من النازحين لمنازلهم بفضل مجهودات القوات المسلحة، كما ان حالة التوقعات الإيجابية ستضع ضغوط علي نمو عرض النقود من الصعب كبحها وعليه يجب التركيز علي توجيهها للقطاعات ذات العائد العالي واحلال الاستيراد وانشاء محافظ تمويلية موجهة للقطاعات الإنتاجية بما يفضي لزيادة الصادرات والاستثمار في قطاع الطاقة الشمسية (يقلل واردات المحروقات).
بشكل عام يمكن القول ان أداء الاقتصاد السوداني فاق التوقعات وعدم انهياره وصموده وتماسكه خلال هذه الفترة شكلت مفاجأة سارة ، كل المؤشرات تقول ان الاسواء قد مر والمنحني الان يتجه صعودا .