مناوي … مارشال الخرائط الميّتة
بقلم- عبّد الجليل سليمان- في دارفور، حيث الحرب أكثر حضورًا من المطر، ولد مني أركو مناوي لا من رحم امرأة، بل من خاصرة بندقية دافئة، خرج إلى الوجود كصدى، لا كاسم، وكشبحٍ لا تُمسكه الأيدي.
يقول الرعاة في شمال دارفور إنّه كان طفلًا صامتًا يتحدّث في نومه عن الخرائط، وأنّه قبل أن يتعلّم النطق، حفظ أسماء القبائل المتنازعة وأصناف الذخائر.
كبر، لا كمن يزهر… بل كمن يتكاثر داخل ذاكرة الحرب.
لم يكن يتنقّل، بل يتسرّب من مكانٍ إلى آخر، كنسمةٍ خفيفة بين نارَين.
وحين حمل السلاح، لم يكن يبحث عن العدالة وحدها،
بل كان يبحث عن مكانٍ يصير فيه وجهه علمًا، ونداؤه نشيدًا، وإن كان من نار.
الماء المُراوغ
لا أحد يصف مناوي كما هو، فهو زئبقٌ سياسيّ، يلمع في كل وعاء، ويأبى الثبات.
قاتل نظام البشير بشراسة، ثم عاد وقبل أن يكون مساعدًا (كبيراً) لرئيس الجمهورية بدون مهام. ثم خرج ثانية، لا حانقًا ولا متأسفًا، بل كمن يتدرّب على الانسحاب ليعود مرة أخرى من بابٍ جديد.
كلّما سئل عن مبادئه، رفع يده كمن يُقسم، ثم غادر الطاولة ليجلس على أخرى.
عقيدته الحقيقية لم تكن الأرض… بل الكرسي الذي لا يسعه أحد سواه.
شيخ الصاغة
حين وُزعت غنائم اتفاق جوبا، لم يختر وزارة التعليم، ولا الشؤون الاجتماعية، بل ذهب إلى المعادن… كأنّه يعرف من أين تُصنع الجغرافيا الجديدة.
ركب قطار الذهب، وترك النازحين في المخيمات يسألون عن الوالي، الذي لا يزورهم إلا إذا مرت الكاميرا من هناك.
بينما كانت المدارس تسقط، والمخيمات تشيخ، كان يُوقّع عقود التنقيب مع شركاتٍ لم تزر دارفور إلا على خرائط الأقمار الاصطناعية .
قالوا له:
“أين التنمية؟”
قال:
“في باطن الأرض.”
لكنّ الأرض لم تكن تنتظر من يَنقُب عنها، بل من يسند ظهرها الجائع.
الهواء إذ يغيّر شكله
مني رجلٌ يتقن فنّ الظهور عند الضرورة، والغموض عند المساءلة.
في الصباح يصرّح مع الدولة، وفي المساء يتّهمها بالتقاعس.
وفي الفجر يُغرد عن الثورة.
هو رجلٌ يملك قاموسًا مزدوجًا، يكتب للسلام بحبرٍ يصلح للحرب، ويتحدث عن الهامش وهو جالس على حافة المركز.
لا يقدّم نفسه كقائد فقط، بل كقضية تمشي على قدمين. كلّ شيء عنده مؤقت، ما عدا حضوره في مشهدٍ لا ينتهي.
والٍ يخاصم فاشره
حين عاد إلى الفاشر والياً، لم يشعر الناس أنّه عاد. لم تمتلئ الأسواق، ولم تُرفع المآذن بالدعاء، بل واصل النازحون انتظارهم، كأن أحدًا لم يأتِ.
دخل القصر، وخرج منه في اليوم التالي.
يوقّع بيانًا ثورياً ويغادر مساء نفس اليوم إلى باريس.
ثم يعود “منه” لا “مني”!
كان واليًا من غبار، لا يترك أثراً.
دارفور بالنسبة إليه منصة مؤقتة في مسرحٍ طويل،
وحين يسدل الستار، يعود إلى العاصمة ليُدير المشهد من بعيد، كأنّ الولاية حقيبةٌ نسيها في مطار جوبا.
صدأ التصريحات
كلّما اشتعلت دارفور، ظهر مناوي كأنّه لم يغادرها،
يتحدّث عن “الهامش”، والمركز”، والمتربصين بالاتفاق”.
كلماتٌ محفوظة كأغنية قديمة.
تُبثّ في الإذاعة الوطنية كلّما خسر أحدهم المعركة.
حين تسأله عن النازحين، يُشير إلى اتفاق جوبا. وحين تسأله عن اتفاق جوبا،
يقول لك:
“ في خطر!”
وحين تسأله عن الخطر، يصمت.
ثم يسافر في اليوم التالي إلى عنتيبي، أو يكتب تغريدة على طريقة المؤثرين الرقميين:
“دارفور تحتاج إلى حلٍّ جذري… وأنا على العهد.”
لكنّ العهد يتغيّر كما تتغيّر درجة الحرارة في خريف زالنجي.
التمثال الذي لا يُنحت
لو قررت دارفور أن تُقيم تمثالًا لـ “التحوّل”، لكان وجه مناوي الأوفر حظًا، يظهر في كل مناسبة، ويختفي في كل كارثة. وجهٌ يُجيد الوقوف في المنتصف، دون أن يحترق أو يُبلّل قدميه.
ليس ثائرًا نقيًّا، ولا سياسيًا فاسدًا، بل خليطٌ دافئ من الحذر، والطموح، والدهاء… والحنين المتقطّع للسلطة.
صرخة الرمال
في خيال الأطفال النازحين، ربما يظهر مناوي على هيئة ظلٍّ طويل،يمشي على حافة الحلم، ويحمل حقيبةً من التصريحات، وصورةً قديمةً رفقة الجنود في الجبل.
ينظرون إليه كما ينظر المرء إلى المطر في نشرة جوية:
قد يأتي… لكنه غالبًا لن يأتي.
لا يسقط من لم يصعد
مني أركو مناوي لا يسقط، لأنه لم يصعد حقًا. ولا يُهزم، لأنّه لم يدخل معركةً كاملة.
هو أشبه برقصةٍ تُكرّر نفسها على مسرحٍ من الرمل، بين لحنٍ خافت، وخطى لا تقرّر وجهتها.
سيُذكَر،
لا لأنه غيّر شيئًا،
بل لأنه ظلّ هناك، في المشهد، دائمًا هناك…
الظلّ الذي يُبدّل مكانه، لا ملامحه.