مؤانسة- فيصل محمد صالح- في محبة رثاء الصحف
لا أعرف توع الكتابة التي أدخل فيها الآن، نويت أن أكتب شيئا عن الصحف المطبوعة التي بدأت تنسحب من حياتنا تدريجيا حتى “غطست حجرها” هذه الحرب اللعينة، عند نهاية المادة قد تكون مناحة ورثاء، ونعي لعمري الذي مضى ، وقد تكون تجميعا لأحداث وطرائف من عالم الصحافة، وقد تكون شيئا غير مفهوم.
سيأتي يوم ولن تكون هناك صحيفة مطبوعة في السودان، سيختفي عالم جميل لطالما زين حياتنا، سيختفي جزء هام من حياتنا الشخصية، نحن صحفيو الصجافة المطبوعة، الحقيقة أنها ليست جزء من حياتنا، بل هي كل العمر. سيختفي عالم عجيب وغريب، لكنه مدهش وممتع، لم نلتفت إلى أنه إلى زوال عندما بدأت أنواع من المهن المرتبطة بالصحافة تختفي، اختفى الخطاطون، ثم تبعهم أعداد من المصممين اليدويين الذين كانوا أشهر من نار على علم، نافسهم الكومبيوتر وأخرجهم من المنافسة، ثم اختفى عالم الجميعين ” الذين يقومون بالطباعة على جهاز الكومبيوتر”.
أتذكرهم الأن وأتذكر النكت والمداعبات التي كانوا يتبادلونها في مكاتب القسم الفني، ويحولون الأيام الكئيبة والمرهقة لعوالم جميلة من الشقاوة والضحك والمقالب المتبادلة. اختفى معظمهم، وبا للأسف لم نفقدهم في حينها. اختفى جدل يدور بين السكرتارية الفنية ومسؤولي المطبعة حول سوء الطباعة، تتردد عبارات عن البطاطين وأنواع الحبر الردئ وألوان الماقنتا والسيان ورطانة مثل هذه لا يعرفها إلا العالمون ببواطن أمور طباعة الصحف.
واحدة من المحطات المهمة في عوالم الصحف هي قسم السكرتارية. لو عمل الصحفي بالأخبار والتحقيقات والمنوعات والفنون والرياضة، لكنه لم يعمل بالسكرتارية، فإن معرفته بعالم الصحافة يكون ناقصا. ومن يعملون في السكرتارية والقسم الفني هم الجنود المجهولون، يقومون بكل أعباء تحويل الكلام المكتوب على الورق إلى صحيفة جميلة تسر الناظرين، ولا يعرفهم أحد، ولو أتيح للقراء رؤية ما نكتبه، بل ونشخبطه، على الورق ، هذا قبل انتشار استخدام الكومبيوتر، لما نظروا إليه مطلقا، دعك عن قراءته. ومن أشهر المشخبطين أستاذنا الراحل السر قدور، وقد كنت خبير فك طلاسم كتابته، يتم استدعائي للمكتب الفني في اليوم عدة مرات لأشرح للجميع ما استشكل عليهم من كتابة الاستاذ.
السكرتارية هي مطبخ الصحيفة الرئيسي، وهي التي تتولى وتتابع تحويل المادة الخام لوجبة دسمة وشهية. ومن حسن حظي أني عملت لفترات في السكرتارية مع مجموعة من ألطف وأشهر الاساتذة، الأستاذ نور الدين مدني والاستاذ طلحة الشفيع، وزاملت إثنين من أشطر الصحفيين في السكرتارية، عثمان نمر والصديق الراحل خلف الله حسن فضل، وشاهدت في صحيفة “الايام” الأستاذ حسن الرضي، أشهر من عملوا بسكرتارية التحرير في الصحافة السودانية.
دخلنا الصحافة وبسرعة تحلقنا حول الاستاذ طلحة الشفيع، كنا معجبين بتمرده وسخريته ودعاباته، وقدراته الصحفية. كان يسمينا نحن الصحفيين الصغار بـ”القبور” وهي صغار الجراد. كان يعزمنا، شخصي وزميلي وصديقي راجي، صباح كل خميس سمك البربري، لكن قبل أن نعود للمكتب يكون الخبر قد انتشر، فهو يعايرنا إننا قد صارت لنا “جضوم” من أكل السمك.
أما أستاذنا الكبير نور الدين مدني فحكاية لوحده، له حكايات وطرائف لا حد لها. يخرج من مكتبه مستاءا من مادة مكتوبة بطريقة رديئة، أو تأخر موعد تسليمها، يخلع حذاءه ويسير حافيا، ونظارته معلقة بسلسلة على رقبته، وأكثر من قلم عالق وسط شعره، وهو يصرخ مناديا الصحفي، وينهي صراخه بجملته الأثيرة “عايزين تجننونا”..فيجيبه أستاذ فضل الله ضاحكا “تجن أكتر من كدة كيف يانور الدين”.
كنت صحفيا مبتدئا متحمسا، أعمل في قسم التحقيقات والأخبار وأكتب عمودا فنيا وأساهم في المنوعات وأحرر صفحة اسبوعية اسمها “شؤون عربية”. طحنتني الملاريا للمرة الاولى في حياتي وأنا في بداية عملي الصحفي، تمددت في المكتب في انتظار سيارة الترحيل لأعود للمنزل، خين دخل علي الاستاذ نور الدين صائحا “وين الولد …….؟” وقفت مرعوبا وأنا اتلعثم، فذكرني بأن اليوم الاثنين موعد تسليم مواد الصفحة، أجبته بأني مريض.
* انتفض الاستاذ وهو يصرخ: دي حركات جديدة كمان، خلاص عايزين تتدلعوا وتبوظوا عمل الجرائد، عيان شنو..شفت ليك صحفي عيان..؟
– أجبته وأنا ارتجف من الحمى: لا ..ما شفت
* أيوة الصحفي ما بيعيا، بيموت بس، يشتغل لحدي ما يموت، نعمل ليه نعي..!
جلست للمكتب وأكملت مواد الصفحة، سلمتها، وذهبت للمنزل.
تتوارد في ذهني الأن أسماء مرت على القسم الفني، جميعين ومصممين ومصححين ومخرجين وفنيين، أسأل الله الرحمة لمن رحل، وأن يطيل عمر الاحياء منهم.
كان الاستاذ اسماعيل يس من ألطف المصممين وأخفهم دما، ما أن يدخل للمكتب إلا ويحيله لمكان ملئ بالضحك والمرح. جاء مرة الاستاذ شرحبيل لزيارته، فتعانقا في مودة شديدة، ثم صاح اسماعيل ” دة عمكم العجوز العمل عمك تنقو في مجلة الصبيان” فأجاب شرحبيل بأنه معترف بذلك، ثم التفت ليقول “لكن الرسم أندرو والأسد منو..؟ وأشار لاسماعيل. واتضح أنهما تزاملا بمكتب النشر بوزارة التربية. “طبعا حكاية أندرو والاسد في كتاب المطالعة لا يتذكرها إلا الراسخون في العلم وفي العمر.”
أتذكر الخطاط العظيم جلي، الذي يحضر عادة بعد المغرب ويتبادل القفشات مع عم عثمان مراقب المطبعة، أو مع الفنان المصمم منعم خضر وزميله هارون، والمصمم عباس مصطفى، الذي صار الأن الخبير الإعلامي الدكتور عباس مصطفى صادق.
لم أرى سكرتير تحرير مثل عثمان نمر في صبره وقدراته المتنوعة والهائلة، قليل الكلام، كثير التدخين وغزير الإنتاج، لديه استعداد لإعادة صياغة وتحرير كل المواد لو لزم الامر. وأعجب ما رأيت أنه كان يعيد صياغة حتى مواد الرأي لبعض الكتاب، سامحه الله فقد صنع كتابا تسلطوا علينا بعد ذلك.
صديقنا الراحل خلف الله حسن فضل فنان ذواقة للأدب والشعر والفن، جاءه متشاعر بقصيدة ركيكة وألح عليه بنشرها، وضعها على المكتب ووعده بالنظر فيها. انشغل خلف الله بعمل السكرتارية لساعة وأكثر، يدخل ويخرج، ويسلم الصفحات للمصممين ويراجعها، ثم جلس ليرتاح في المكتب فوجد القصيدة الركيكة، وتذكر صاحبها المتشاعر الثقيل، مزقها ورماها في السلة، فإذا بالرجل الذي كان يجلس في ركن المكتب يصرخ “قصيدتي يا أستاذ”. فوجئ خلف الله وبدأ في الاعتذار” والله ما عارفك قاعد، أنا قايلك مشيت قبيل..” وانفجرنا بالضحك على العذر الطريف والمضحك.
وتمر في الخاطر ذكرى المصححين من ذوي الوزن الثقيل، الأستاذ عبد اللطيف عمر، والأستاذ عبد الله بلة رحمهما الله، وطولة العمر للاستاذ عيسى إبراهيم الذي كان يراهننا في صحيفة “الاضواء” لو وجدنا خطأ واحدا بعد تصحيحه للصفحات.
تحية للجنود المجهولين في عالم الصحف، الكتائب المنسية التي لا يعرفها القراء، لكننا نعرف فنهم وأدبهم وقيمتهم، ونعرف أنه بدون جهدهم وفنهم لما صدرت الصحف، ذكرت منهم من خطر لي في الذاكرة، لكنهم كثر…وعذرا لمن لم نذكرهم هنا.
* أعتذر عن غياب هذه الكتابة، شغلتني المشاغل وظروف أكل العيش، مع تعكر المزاج. حولتها من مؤانسة الخميس لمؤانسة الجمعة، وها أنا أحرمها من إضافة أي يوم تحسبا لعدم الالتزام بذلك، ستكون كتابة حرة وطليقة من أي قيد متى أذن الله بذلك.
ربما تستمر هذه السلسلة لتكون عن ذكريات الصحافة والصحف، وربما نكتفي بهذا، “مندري” على قول الفنان التشكيلي حسن موسى.