كتب – محمد عثمان إبراهيم تحت عنوان “رباعية وخرقها خماسي.. شملة البرهان التي لا تستر” قائلا: الخيانة فعل عصي على الستر فالخيانة فضيحة لا تبقى طي الكتمان إلى الأبد، وحين يكتب تاريخ الخيانة في هذا البلد سيندهش العالم من فظاعة ما فعل بعض السودانيين ببلادهم من يقرأ التاريخ يعرف أن الكثيرين قد ارتكبوا فعل الخيانة الدنيء بداية من الأدلاء الذين قادوا حملات تجار الرقيق في القرون السابقة إلى مضارب قبائلهم مقابل الحصول على الأسلحة النارية حتى يتمكنوا من المزيد من البطش بأهلهم لصالح الأعداء، حتى نصل إلى مصححي الإحداثيات لمدفعية ومسيرات العدو، لكن ينبغي -ضمن جهد الفيلة هذا كما يقول الفرنجةـ حجز فصل كامل لقائد ما انفك يسعى لم يستبق شيئاً للوصول إلى هزيمة ذات الجيش الذي وضعه خائن غيره على رأسه.
هذا الفصل المميز سيكون مغلقاً على عوض بن عوف وعبدالفتاح البرهان وسيجردهما التاريخ من الرتب العسكرية كما لم يسبق لأحد في هذه البلاد.
ستتنكر لهم حاشية الخزي التي تحيط بهم الآن، وسيتنكر لهم حارقو البخور الذين يقوم بحشو بطونهم بالسحت فيتجشأون ثم يكذبون، وستتنكر لهم الأرض والقبيلة! اقرأوا قصة الجاسوس الإسرائيلي ألكساندر يسرائيل الذي تنكر له كل العالم، وتنكرت له الأرض، إثر فعل خيانة أثيم في عرف أهله.
في هذا الفصل ستكتب -إن توفرت لكاتب ما الشجاعة- حكايات النشطاء المعارضين لنظام الرئيس الأسبق جعفر نميري وكيف أن غاية جهودهم كانت الحفاظ على النظام الذي يعارضونه لا الانتصار عليه!
حدث المعارض التاريخي -ولقب التاريخي مستحق لأنه عارض ثلاثة أنظمة بشكل متصل وكسب من الأنظمة التي كان يعارضها أكثر ما ناله في حياته المديدة من الكسب المالي والسحت- حدث فقال إنه في اليوم الذي سقط فيه نظام النميري عاد إلى منزله في العاصم الأوروبية فوجد زوجته واجمة وباكية وحزينة بسبب الانتصار على النظام الدموي الدكتاتوري على حد وصف زوجها وجماعته له. نظرت الزوجة الحزينة إلى زوجها ثم سألته سؤالاً واحداً: هل انتهت سنوات المنفى وستتوجب علينا العودة مع الزعماء إلى السودان؟ أجاب الزوج المكلوم بانتصاره: نعم.. وعادوا!
مثل هذا النوع من الحكايات كثير جداً -ولن يحتمل السياق الإطناب في ذكرها- لكنا نقول قبل أن نغلق القوس هنا أن حديث المسؤول الكبير عن ضرورة سقوط الفاشر حتى ترتاح الحكومة من الضغوط والابتزاز الذي تتعرض له -على حد زعمه- من شركائها السيد مني أركو مناوي، والدكتور جبريل إبراهيم لم يعد من أسرار المجالس.
الفرح الغامر بالعقوبات الأمريكية
على وزير المالية الدكتور جبريل إبراهيم وصل إلى آذان العالم الذي ليس أمامه سوى أن يحتقر أرومة تقبل ذل فرض العقوبات على شعبها، ويقبل حكامها الدنية ويطأطئون الرؤوس دون أن يقووا حتى على الصراخ: آه من قيدك أدمى معصمي! لم تصدر حكومة السودان ورئيس الوزراء الأبله (وهو ليس أبله دوستويفسكي) تصريحاً مقتضباً يرفض فيه مبدأ العقاب أصلاً ويرفض فيه المساس بعضو في حكومته، حتى لو كان وزيراً ناشزاً يختصر -هو نفسه- مصلحة الوطن في مصلحة الأبناء والعائلة دون أن يقوى أحد أن يقول (تك لغنماية المك).
سنعود للأبله في مقال منفصل قريباً.
لا أحد من ذوي النهى يجهل أن
عبدالفتاح البرهان ظل يعمل ضد وطنه مبذولاً ومتاحاً للاستخدام الأجنبي منذ يوم الانقلاب على حكومة المعزول البشير وحزبه. توفر قبل الانقلاب لخدمة التحالف السعودي-الظبياني في العدوان البشع والمخزي على الشعب اليمني الشقيق، ثم توفر لاحقاً لخدمة البلدين النفطيين، وخدمة جنوب السودان وإثيوبيا وكينيا والغرب كله (فهو مستعد مثل كثير من الساسة السودانيين لطاعة أي خواجة) ومضى زحفاً من أجل خدمة إسرائيل.
كل الذين ركع لخدمتهم ترفعوا عن قبول خدمته، وهو بتهافته وضعة نفسه وجهله لم يدرك أن الدول لا تستخدم الخونة لأنهم قرروا أن يخونوا أوطانهم، ولكن لأنها تحتاج إلى خيانتهم قبل كل شيء. الأنظمة الأجنبية التي يتقدم لخطب ودها ليس لديها فائض وقت لتوظف عملاء لديها وهي لا تحتاج إليهم اصلاً.
معركة البرهان الحقيقة والثابتة هي ضد الجيش النظامي- ونحن في هذا الصدد نعتمد على رصد الأفعال لا الأقوال فالرجل يقول كثيراً لا يكترث اليوم لما قال بالأمس والطبول التي يضربها البعض من حوله تجعل استعادة صوته وكلمات الأمس شيئاً عصياً.
استهل معركته ضد الجيش بسلسلة من قرارات الإحالة للتقاعد والمعاش وفق كشوفات كانت تأتيه مباشرة من أبوظبي أو يأتي له بها حليفه السابق والذي لم ييأس حتى الآن من استعادة تحالف الخيبة والفشل والموت معه: محمد حمدان دقلو.
كان حميدتي بدوياً ماكراً فأوعز إليه مرات كثيرة بإقالة ضباط ذوي كفاءة ومهارات وتميز، ولدهشته لم يكن يسمع من المطاح بهم احتجاجاً حتى اكتشف الأمر فغضب وحمل أوراقه إلى أبوظبي محتجاً ب: كلما أصدرت قراراً بناء على توصيتكم – طبعاً أوامركم- بإحالة ضباط إلى المعاش قام حميدتي باستقطابهم في الدعم السريع وأعطاهم رتباً ورواتب أعلى، ومميزات لم تكن لتتوفر لديهم في الجيش النظامي المرهق بالحروب الداخلية وطعنات الساسة في ظهره العالي.
لم يكتم هذا الأمر وأبلغ به عدداً كبيراً من خاصته معترفاً بتفضيل مشيخة أبوظبي لحميدتي عليه رغم طاعته وخدمته لهم في الحقل والمنزل.
طوال فترة الحرب كان الناس
يتفادون الحديث عن الخيانات المتصلة وكيف أن البرهان خان قسمه مع الشعب حين أكد لهم أنه ليست هناك حرب بينما كانت تقارير الأجهزة العسكرية والأمنية تبلغه بأن الحرب آتية لا ريب فيها، حتى أبلغه الضباط ببداية اندلاع المواجهات في حرم المدينة الرياضية بالخرطوم.
لم يقم بشيء لحماية الشعب والممتلكات ووثائق السلطة والدولة ومقار الأجهزة الأمنية والجامعات والمصارف وعشرات الآلاف من الأعيان المدنية والمنشآت التجارية والصناعية. قام البرهان بإجرائين فقط تحسباً للحرب وهما: نقل عائلته إلى تركيا قبل أشهر من ساعة الصفر، وبناء حواجز أسمنتية لحماية مقر سكنه. لكأنه أدى القسم لحماية أسرته وبيته فقط لا غير.
منذ ذلك اليوم حافظ البرهان على سقف محدد للمعركة مع مشيخة أبوظبي ومع الجنجويد على النحو التالي:
1- التعامل مع العدوان الظبياني وكأن شيئاً لم يكن ومفارقة الخط الجماهيري وخط المؤسسات الرسمية بما فيها قادة الجيش والحكم ووزارة الخارجية التي تتعامل مع مشيخة أبوظبي كعدو في حالة حرب ظالمة على السودان. هذا المنهج يخذل الشعب السوداني ويطعنه في الظهر ويوالي العدو وفي هذا شواهد عديدة تملأ كتاباً.
2- التعامل مع الأداة الرئيسية للعدوان الظبياني وهي الجنجويد بقيادة آل دقلو بطريقة فيها الكثير من التواطؤ وإثارة الشكوك بوجود صفقات سرية سمحت للمجرم عبدالرحيم دقلو بالعيش بأمان في مواقع متعددة بالخرطوم خلال الحرب، وخروجه من الأسر في أول أيام العدوان، بالإضافة إلى خروجه المصور في رتل طويل من السيارات من الخرطوم إلى دارفور دون أدنى اعتراض.
3- مساعدة كافة العناصر المدنية الموالية للعدو الظبياني وللجنجويد في تحركاتهم داخل وخارج السودان وقد كتبنا في حينه عن الجوازات الدبلوماسية التي كانت ممنوحة للخونة وعملاء العدو، إضافة إلى حماية خطوط تحركاتهم خلال فترة الحرب الأولى وحتى خروجهم من السودان، ويمكن ذكر أسماء العشرات من المجرمين الخونة الذين تم تأمين سفرهم إلى قواعد العدوان على السودان بكل طمأنينة وأمان.
4- ملابسات المعارك في مدني وطرد الجنجويد منها ومن ولاية الخرطوم، وغل يد الجيش عن التعامل مع العدو، والسماح بخروج المجرمين بأسلحتهم وسياراتهم ومنهوباتهم وجرائمهم الكبرى وخروج بعضهم سيراً على الأقدام.
5- عدم قطع العلاقات مع دولة العدوان وكسر هيبة قرار مجلس الأمن والدفاع ومواصلة الإتجار معها بما في ذلك استيراد معدات وبضائع ذات قيمة استراتيجية واستخبارية يضر مرورها بالإمارات بالمصلحة الوطنية كلها (راجع عملية القبض على بعض المشتروات المهمة في أبريل الماضي).
6- مواصلة تقديم الخدمات القنصلية في سفارة السودان بدولة الإمارات رغم أن العرف يقتضي استخدام بعثة دبلوماسية لبلد آخر.
7- إقامة العديد من رجال (ونساء) الدائرة المقربة من رئيس مجلس السيادة بدولة الإمارات رغم الحرب التي شهد العالم كله على فظاعتها ضد السودان.
8- تكميم فم الإعلام السوداني ومنعه من مواجهة العدوان الظبياني ولو بالكلمة وتعيين جيش ضخم من الإعلاميين المرتشين والطبالين للتضليل والترويج لصناعة رمزية للبرهان خصماً على صورة الوطن التي تتم إهانتها وتمريغها في الوحل دون احتجاج أو رفض.
9- بالمقابل دعم الأنشطة الاستخبارية والتجسسية والعدائية وخرق الأمن الوطني من خلال رعاية أعمال اختراق كبيرة تقوم بها المؤسسات الإعلامية الخليجية وأعضاء الهيئات السرية والعلنية الموالية للعدوان الظبياني وجرائم الجنجويد وتوفير الأمن والحماية واعمال الحراسة لهم ولعائلاتهم والمقربين منهم.
10- السماح بممارسات سلوكية غير لائقة لقادة الدولة والحكم ودفع مئات الآلاف من الدولارات لمجموعات من الساقطين والساقطات من المال العام تحت شعار (ديل واقفين مع الجيش) وهي كلمة حق أريد بها باطل فليس في الأمر (وقفة) واحدة.
في غضون ذلك صار البرهان يتعامل مع الحرب في السودان والتي انتقلت إلى جنوبه وغربه وكأنها انتهت حيث أتخمت وسائل الإعلام المحلي والأجنبي ومنصات التواصل الاجتماعي بمئات الأخبار عن مشروعات البناء وإعادة البناء والحفلات الغنائية ذات الجمهور الهادر في الخرطوم، وذلك لصناعة تواطؤ مجتمعي مع الفظائع التي يقوم بها الجنجويد في ولايات دارفور وفي مدينة الفاشر المحاصرة منذ ما يقارب العامين دون أن يفتح الله على قائد الجيش بكلمة واحدة للتضامن مع الضحايا، ناهيك عن تحمل مسئولياته تجاههم.
في الوقت الذي كان اهل الفاشر يكفكفون دموعهم ويدفنون ضحايا مقتلتي المسجد، كانت قناة العربية المعادية للسودان -والمتحالفة مع البرهان- تبث مقاطع فيديو لحفل غنائي محضور في الخرطوم، وغني عن القول إن مثل هذه الأنشطة وبثها في وسائل الإعلام تخدم العدوان وخطابه القائم على عنصرية دولة ٥٦ التي لا ترى في مواطني الأطراف بشراً، وتتعامل بحياد ولامبالاة مع الفظاعات التي تقع عليهم بفعلها أو بامتناعها عن الفعل.
تحالف البرهان مع قناة العربية والحدث من جهة ومع قناة الشرق لا يحتاج إلى كثير ذكاء للكشف عنه، ومن المهم هنا أن نشير إلى تصاعد الأحداث الأسبوع الماضي على خلفية تقرير رديء ومضلل من الوجهة الإعلامية والصحفية ضار بالمصلحة الوطنية والأمن القومي من الناحية السياسية أعادت فيه (العربية) تركيب عدد من المشاهد والصور القديمة مع عدد من الأخبار القديمة ثم إضفاء عدد من الأوصاف والأكاذيب على خلاصة هذه الحبكة الخائبة والتي وصفت بأنها تقرير استقصائي وأنها حوت معلومات حصرية.
والحقيقة أن وجود الرئيس المعزول في مروي هو أمر في متناول الجميع، وأن حيازته لهاتف نقال وشبكة إنترنت ليس سرًا. فهو يتواصل مع الكثير من أصحابه القدامى وأصحابه الجدد، ويعزي في الموتى، ويبارك في الأفراح، ويتلقى التهاني والمباركات في الأعياد.
منذ سنوات، يرفض البرهان لأسباب كثيرة الاستجابة للوساطة القطرية التي تطالبه بالإفراج عن الرئيس المعزول، لأنه وإن كان يدرك أن الماضي لا يعود، فهو ليس بغافل عن ثقل وشعبية البشير داخل الجيش. إضافة إلى أن البشير ينتمي إلى نفس المجموعة العرقية التي يحاول البرهان الاستناد إليها حالياً. لذلك، فإن خروج البشير يعني سحب البساط والسند الاجتماعي وسند القوات المسلحة من البرهان، حتى ولو حملت شروط الإفراج امتناع المفرج عنه عن الفعل السياسي والركون إلى شيخوخة هانئة بعد التقاعد.
أفرج البرهان عن بكري حسن صالح وعبدالرحيم محمد حسين اللذين ينتميان إلى أقصى شمال السودان وليست لهما شعبية تجعل منهما مهددين للسلطة، كما إنه لم تطلب أي دولة عربية أو أفريقية الإفراج عنهما.
بعد العدوان الإسرائيلي الأخير على العاصمة القطرية الدوحة وبدء الترتيبات لعقد القمة العربية الإسلامية أدرك البرهان أنه ليس بوسعه الغياب عن القمة وبما أن القمة ستعقد في الدوحة فإن الغالب أن يثير القطريون مرة أخرى قضية الإفراج عن البشير، وللقطريين في عين السودانيين خاطر غال لا يرد.
هكذا لعب البرهان البطاقة الأخيرة وهو الفرقعة الإعلامية من خلال قناة العربية عبر الدفع بموضوع ظروف إقامة الرئيس المعزول إلى واجهة الاستهلاك الإعلامي، وما قد يثيره مثل هذا النوع من التقارير في الربط بين الحكومة الحالية والحركة الإسلامية التي كان يرأس نظامها البشير!
هكذا ظن البرهان أن بوسعه الإفلات من أسئلة المضيف القطري إذا أثار طلب الإفراج عن البشير مرة أخرى بالرد بأن الظرف الحالي غير موات وإن هناك حديث كثير عن إن نظامه هو امتداد لنظام البشير وإنه إذا قام بإطلاق سراحه وسط مناخ الاستقطاب هذا فإنه إنما يؤكد على اتهامات خصومه.
أمسك الوسيط القطري لسانه ولم يسأل البرهان عن شيء، وفشل التقرير في إثارة الاهتمام اللازم لكن البرهان استخدم أداة أخرى لصب المزيد من نار وهي اصدار بيان مطول بتوقيع وزير الإعلام – المعطل عن أداء مهامه- يهاجم الصحفية التي أعدت وقدمت التقرير في سابقة غريبة تصدر فيها الوزارة صفحات ضد صحفية بينما يوضع شريط لاصق على فم الوزارة نفسها لمنعها من قول كلمة واحدة ضد العدو وأدواته.
لا شأن لنا بإطلاق سراح البشير هنا لكن هذا أمر آخر وهذه الفرقعة لعبة سخيفة خصوصاً إذا تم النظر فيها مع ما سبق من قيام وزارة الإعلام نفسها بإيقاف ذات الصحفية وقناتها المعادية ثم توجيه وزير الإعلام برفع الإيقاف عنها بأوامر مباشرة من العقيد مدثر عثمان – أحد سكرتارية البرهان المتنفذين- للوزير المغلوب على أمره خالد الإعيسر، الذي سيضطر بعد أسبوعين تنقص أو تزيد قليلاً لرفع الحظر عن الصحفية والقناة دون بيان أو كثير كلام.أبدأوا العد منذ اليوم.
كارثة ما يسمى باللجنة الرباعية:
يعمل جهاز الدولة في السودان على موجتين متناقضتين واحدة تتعامل مع مشيخة أبوظبي كعدو وأبرز عناصر هذه الموجة بالإضافة إلى الإعلاميين الأحرار غير المرتشين، بعثة السودان لدى الأمم المتحدة فيما تتعامل الموجة الثانية مع المشيخة المعتدية على إنها مستحقة للانتصار، وصديقة رغم الدماء ويقود هذه الموجة رئيس مجلس السيادة شخصياً وعناصر بطانته الخاصة وهي عناصر صارت معروفة للعامة ولم تعد قادرة على إخفاء صفحة نفسها.
يتواصل البرهان مع العدو بشكل غير مباشر عبر رسائله التي لا تنقطع مع معاوني الجنجويد من اتباع ما يسمى بقوى الحرية والتغيير بتجلياتها المخادعة المختلفة، وبشكل مباشر مع العدو ومما يجدر ذكره أن البرهان لم يتحدث حتى اليوم إلى الشعب عن فحوى مكالمته الهاتفية مع حاكم مشيخة أبوظبي محمد بن زايد بوساطة من رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد في يوليو ٢٠٢٤م الماضي، وهي تلك المكالمة التي أعادت تشكيل ما يسمى باللجنة الرباعية بإعادة دخول الإمارات كشريك في وقف الحرب التي تقودها ضد السودان!
لعبت تلك المكالمة دوراً أساسياً في تدمير ما عرف بمنبر جدة الذي كان برعاية سعودية وتفويض أمريكي ومشاركة مصرية محدودة، وقد نجحت تلك المكالمة في خداع البرهان بأنه لا يزال هناك مكان له في قلب أبوظبي فدلق ماء جدة أملاً في السراب.
ما يسمى باللجنة الرباعية تشكيل مفتعل من قبل سفراء هذه الدول في الخرطوم والحقيقية هو تشكيل بين سفراء السعودية والإمارات ويستظل بسفارتي بريطانيا والولايات المتحدة ثم ألحقت بهما مصر بديلاً عن المشاركة البريطانية المباشرة خشية أن تقوم القاهرة بعمل مشاكس إذا تم استبعادها بالكامل من الملف.
تواطأت القوى السياسية الهشة التي صنعها حميدتي وتحالف معها هو والبرهان، وتوافقوا مجتمعين على منحها تفويضاً غير مسبوق في الدول المستقلة للتقرير بشأن كل شيء من ترتيبات الفترة الانتقالية، إلى صياغة القوانين، وكتابة الدستور، وما سمي بإصلاح الجيش والقوى الأمنية، وكان البرهان ومساعدوه الكبار يجلسون بالساعات الطوال لمحاضرات يقدمها العملاء من شاكلة خالد (سلك) وإسماعيل أبوضفائر والسفراء الأجانب في ورش العمل المخصصة لإصلاح الجيش الذي يقودونه دون أن يتساءل واحد منهم عما هي خبرة هذا المتحدث أو ذاك، أو تلك الساقطة المخمورة أو غيرها في إصلاح أحوالهم الخاصة ناهيك عن إصلاح جيش عمره 100 عام ونيف!
يؤمن البرهان بشكل لا يراوده شك بأن رسالته في هذا العالم هي البقاء في السلطة مهما كلف الأمر البلاد والعباد وفي هذا التصور لديه ألف حق وسند فكمية الجرائم التي تورط فيها خلال الستة أعوام الماضية تجعل من الصعب عليه الابتعاد لثانية واحدة عن مقعد الحاكم، كما إن الأسرار والشراكات الفاسدة التي تآمر لتحقيقها مع آخرين تجعل بقاءه آمناً دون بزة السلطة أمراً مستحيلاً ولو لساعة واحدة. لو كان مثل هذا الرقص ينجي لأنجى عفاش، عل هذه العبارة تصير مثلاً.
ولتحقيق هدف البقاء في السلطة فإن البرهان يعول على العامل الخارجي أكثر من أي فعل داخلي، فتجربته في السلطة خلال السنوات الماضية أكدت له أن القدرة على رشوة القوى السياسية والفواعل الإعلامية أمر سهل وبسيط، ولا يكلف كثيراً من المال لكنه يخطئ حين يجهل ما يسمى بالسياق الاجتماعي التاريخي الذي أفرز هذا الوضع المؤقت المشوه والاستثنائي، والذي سيتغير بشكل مباغت وحاسم مع تطورات الأحداث السياسية بحيث يصبح فجأة امام ساسة جدد، وإعلاميون جدد، ومثقفون جدد، وشعب جديد لا يعرف شفرة التعامل معه أو القدرة على رشوته.
هكذا ذهب البرهان خفية للقاء سويسرا الذي صار أمراً يعلمه الجميع وهو الذي كان يحرص على ابقائه سراً، وبالرغم من مرور أسابيع على ذلك اللقاء فإن (الكاهن) بلغة حارقي البخور والطبالين من حوله لم يتحدث للشعب أو لأركان الحكومة ولم ينور الضباط من رتبة عميد فما فوق عن محتواه وتداعياته، وهو أمر معيب لكنه مفيد جداً على المدى الاستراتيجي حيث يزيد من اتساع الشقة بينه وبين المقربين ممن حوله ويضيف مزيداً من الزيت على نار الخصومة بينه وبين من يعول الشعب عليهم للخلاص منه.
في ظل هذا الوضع جاء بيان اللجنة الرباعية والتي أطلق عليها الكثير من المراقبين الإعلاميين والسياسيين اسم اللجنة الخماسية بحق والعضو الخامس في اللجنة هو ذات رئيس مجلس السيادة السوداني الذي كتب قبل أشهر (فبراير الماضي) مذكرة (سري للغاية وشخصي) بخط اليد وعلى ورقة غير رسمية لممثل الأمين العام للأمم المتحدة رمطان العمامرة سرعان ما تسربت وتسرب اسم كاتبها لوسائل الإعلام وأعيد نشرها تحت عنوان خارطة الطريق الحكومية.
احتوت تلك الوثيقة (بنت أبيها) على ثمانية فقرات رحب البرهان في أربع فقرات منه بدور الأمم المتحدة في حل النزاع السوداني، وهذا يكشف أن قائد الجيش لا يعول على الجيش الذي يقوده في تحقيق النصر وهزيمة العدوان والتمرد المتراجع بل لا يريد لجيشه أصلاً الانتصار، وأن الوسيلة المفضلة لديه هي الحل التفاوضي وإعادة التحالف مع المتمردين برعاية الأمم المتحدة والقوى الأجنبية.
تتضمن هذه الفقرات مبادرة مجانية بوقف إطلاق النار، وهذا يعني -ببساطة- إبقاء الأوضاع على ماهي عليه، وتكبيل يد الجيش والقوات المساندة والمشتركة وحرمانها بقرار أممي من تحرير الأراضي التي تحتلها أبوظبي وأعوانها الجنجويد، وهي مساحات تزيد عن مساحة دول الخليج الفارسي العربية كلها باستثناء السعودية. في غضون ذلك يمكن للجنجويد كسب الوقت وبناء مؤسساتهم ودولتهم وجيشهم وقوات طيرانهم تحت سمع وبصر العالم والسودانيين وصناعة أمر واقع جديد في إقليمي دارفور وجنوب كردفان.
في الفقرة الأخيرة يتبرع البرهان بتحديد قيد زمني قدره (تسعة أشهر) ولست على يقين من أساس اختيار هذه الفترة بالتحديد (للحبل السياسي) الملزم للحكومة بالتفاوض مع قوات الجنجويد حول ما أسمته الوثيقة السرية ب(مستقبلها) وتشكيل حكومة من المدنيين، وإدارة حوار برعاية الأمم المتحدة -طبعاً!
أخذت اللجنة الرباعية هذه التبرعات مجاناً ولم تضف إليها شيئاً حتى فترة الأشهر التسعة لم تزد عليها يوماً لكن الصوت الظبياني برز بفقرة معتادة تقرأ “إن مستقبل السودان لا يمكن أن تُمليه الجماعات المتطرفة العنيفة، والتي هي جزء من جماعة الإخوان المسلمين أو مرتبطة بها بشكل واضح، والتي أججت نفوذها المزعزع للاستقرار العنف وعدم الاستقرار في جميع أنحاء المنطقة”. الغريب أن هذه الفقرة تأتي خاتمة لفقرة تبدأ ب”مستقبل حكم السودان متروك للشعب السودان” لكن الاستهانة بالشعب السوداني ضمن الاستهانة بحاكمه العضو السري وحامل القلم في اللجنة الخماسية المسماة زوراً بالرباعية هو الذي جعل تزويج النقائض هذه ممكناً في فقرة واحدة.
أين صرنا؟
الخلاصة معروفة مقدماً.. البرهان يسعى مخلصاً لهزيمة الجيش الذي يقوده مهما بلغت الكلفة من الأرواح الطاهرة والدماء الزكية والدموع وهدر الكرامة ونشوء جيل كامل من الأمهات والأخوات إلى ثكالى ونشوء جيل يأتي على العالم يتيماً. هو يريد حلاً تفاوضياً مع الجنجويد يضمن له الاستمرار في السلطة برعاية العدو في أبوظبي والأمم المتحدة، ومقابل ذلك يقوم بتوفير كافة الضمانات اللازمة للجنجويد بالبقاء في الأماكن التي يحتلونها الآن حتى يستعين بهم لحماية سلطته إذا انتفضت الجماهير وحفزت ضباط الجيش على تصحيح الوضع الحالي.
سيذهب الأبله رئيس الوزراء التائه إلى الأمم المتحدة ممثلاً لنا وهو الطريد من سوحها بفضيحة فساد مجلجلة ليضع رأس السودان في التراب وهو يمثل أهله ويمثل بهم، لكن لحسن الحظ فإن العالم سيحتقره ولن يستمع إليه وسيتوجب على السودانيين في زمن لاحق أن يتكفلوا بمحو عار تمثيل كامل إدريس لهم في منظمة خرج منها بالباب الخلفي كسيفاً كسيراً.
الدعوات الصادقات المخلصات بأن يقي الله السودان شرور أبنائه أولاً قبل أعدائه، وأن يعين الشعب والجيش على النصر وهو الغاية والختام المؤكد لهذه المعركة، وحينها سيدفع كل مجرم قتل أو عاون القتلة بالفعل، أو الكلمة والتضليل، أو الصمت، الثمن عن فعله الأثيم.