كتب.. محمد ضياء الدين- لطالما إرتبط تكليف الوزراء في السودان برؤاهم وبرامجهم الشخصية يتساءل البعض، ما برنامج حمدوك؟ وما برنامج كامل إدريس؟ وفي هذا السياق، يلفت الإنتباه أن البعض، مثل كامل إدريس، جاء بعد تكليفه يحمل كتابه بيمينه، كما لو أن الشعب ينتظر الخلاص من رؤية فرد، أياً كان.
وهكذا تنتقل هذه الذهنية إلى الوزراء كافة، حيث يُتوقع من كل منهم أن يدخل وزارته ممسكاً بـ(كتابه)، الذي يمثل برنامجه الخاص، ولا يعكس رؤية جماعية أو إستراتيجية وطنية محددة.
نتيجة لذلك، تتحول إدارة الدولة إلى مجموعة من الجزر المعزولة، تعمل كل وزارة فيها بمعزل عن الأخرى، وفق تصور الوزير وتقديره الخاص، في مشهد أقرب إلى (التجريب الفردي). بل ان بعض الأوساط السياسية والشعبوية باتت تعتبر هذه الفردانية مقياس نجاح الوزير، فعلى سبيل المثال، يُنظر إلى كامل إدريس بوصفه صاحب رؤية لأنه جاء يحمل تصوره الخاص الذي أعلن عنه قبل مباشرته مهامه، بينما يُنتقد حمدوك لأنه إنتظر برنامج قوى الحرية والتغيير عند تكليفه، وكأن إنتظار البرنامج الجماعي ضعف ينسب لحمدوك، وليس حرصاً منه على التوافق والمأسسة.
تجدر الإشارة هنا إلى أن تناول تجربة بعض الأسماء، كما في حالة كامل إدريس، لا يُقصد به الإعتراف بشرعية مواقعهم التنفيذية، في ظل سلطة أمر واقع لا تستند إلى شرعية دستورية. بل إن ما يستدعي النقاش هو النموذج الذهني الذي يعكسه هذا الظهور الفردي، بوصفه مثالاً على إشكالية تحويل إدارة الدولة إلى مبادرات شخصية منعزلة عن مشروع الدولة العام.
في المقابل، فإن الإدارة الرشيدة للدولة ينبغي أن تقوم على أساس برنامج حكومي موحّد، واضح المعالم، نابع من عملية تشاورية وتخطيط جماعي. عليه فإن مجلس الوزراء لا بد أن يكون الجهة المخوّلة بوضع خطة تنفيذية متكاملة، تُحدد فيها بدقة مهام كل وزارة وأولوياتها، في إطار رؤية إستراتيجية موحدة للدولة.
إن تجاوز الذهنية الفردانية في الإدارة يُعد مدخل أساسي لتنظيم العمل الحكومي وضمان الانسجام المؤسسي والتكامل بين السياسات القطاعية. وبعبارة أخرى، لا ينبغي أن يُنظر إلى كل وزير على أنه (صاحب مشروع)، بل كجزء من منظومة مسؤولة عن تنفيذ سياسات الدولة الجامعة. فنجاح الوزير يُقاس بقدرته على ترجمة البرنامج الحكومي إلى نتائج ملموسة داخل وزارته، لا بإبداعه الفردي المعزول.
علاوة على ذلك، من الضروري التأكيد على أن الوزير، في هذا الإطار المؤسسي، ليس سوى منفّذ ضمن سلطة تنفيذية لسياسات دولة تتجاوز الأشخاص والأهواء. هذا لا يعني حرمان الوزير من المبادرة أو الابتكار، بل يعني أن يكون إبداعه محكوم بالإطار العام ومتسق مع رؤية الدولة، حتى لا تتنازع الوزارات في الاتجاهات والغايات والاجتهادات الخاصة.
إن الإنتقال من نموذج الإدارة القائم على الرؤى الفردية والبرامج الشخصية، إلى نموذج يقوم على برنامج حكومي شامل وتخطيط مركزي متناسق، هو شرط لبناء دولة حديثة، قادرة على تحقيق أهدافها التنموية، وترسيخ مؤسساتها، وضمان فاعلية أدائها وإستدامة مسارها الوطني.
فالدولة لا تُبنى بالإلهام الشخصي، بل بالمأسسة، والتخطيط، والتكامل بين مؤسساتها. وعلى إدارة الدولة أن تتجاوز منطق (المبعوث صاحب الرسالة) نحو إدارة تستند إلى برنامج موحد، هو الخطوة الأولى نحو الإستقرار والتنمية وبناء دولة القانون والمؤسسات.