هناك فرق – منى أبوزيد- الواقعية السياسية بين ضرورات التوافق وحدود الإنصاف
“لا يمكننا إنهاء الحرب بذات الأدوات التي أشعلتها، ولا بناء الدولة بذات العقول التي فككتها”.. الكاتبة..!
في ظل تعقيدات المشهد السوداني المتشظي بين نيران الحرب وهواجس السلام، تبرز رؤية حزب بناة المستقبل “مستقبل العملية السياسية في سودان ما بعد الحرب” كمحاولة لإعادة ضبط البوصلة الوطنية عبر مقاربة سياسية تُراعي تعقيدات الواقع وتوازنات القوى..!
في هذه الرؤية طرح يوازن بين الواقعية السياسية الصارمة والبراغماتية الانتقائية، وهو ينطلق من فرضية مركزية “أن نهاية الحرب لا يمكن أن تكون عسكرية فحسب، بل تستلزم تسوية سياسية شاملة تُراعي مصالح الأطراف المتورطة والمتضررة والمستفيدة على حد سواء”..!
الرؤية في مجملها تتضمن عدداً من نقاط القوة والإيجابيات التي تستحق الإشارة، مع وجود تحفظات على بعض النقاط، ومنها أنها تقر بأن هذه الحرب ليست مجرد صراع عسكري، بل تعبير عن فشل سياسي عميق، وتشابك مصالح قبلية وعسكرية وسياسية داخلية وخارجية، وهذا الاعتراف يُعد خطوة ناضجة في اجتراح الحلول..!
وأنها تدعو إلى اتفاق سياسي شامل لا يستثني أحداً، بل يشمل كل من شارك أو تضرر أو استفاد من الحرب، وهي بهذا الفهم تؤسس لإطار تفاوضي واسع قد يكون أساساً لسلام مستدام. ومن الإيجابيات المهمة أنها تُميز بين قيادة مليشيا الدعم السريع – آل دقلو – والقواعد القبلية الداعمة لها، وتقترح آلية انتقالية لضمان اندماج هذه القواعد في المستقبل دون وصم جماعي أو انتقام، وهذا توجه ذكي سياسياً واجتماعياً..!
الرؤية لا تفتح الباب على مصراعيه لعودة الإسلاميين لكنها تضع شرطاً لتجديد وجوههم السياسية، وتقر بأهمية تأثير ثورة ديسمبر، وهذه المقاربة تُظهر مرونة سياسية وقدرة على المواءمة بين التغيير والاستيعاب..!
وهي أيضاً تقترح أن يقود الجيش الفترة الانتقالية بالتعاون مع حكومة تكنوقراط لمدة محدودة، في محاولة للتوفيق بين ضرورة استقرار الدولة ومطالب العودة إلى الحكم المدني..!
كما أنها تتضمن مقترحاً بإشراك الحركات المسلحة في “مجلس سلام” بدل تمكينها من السلطة التنفيذية، وهذا طرح يُوازن بين الاعتراف بوزنها الميداني وعدم إعادة إنتاج المحاصصات العسكرية في الحكم..!
أيضاً يُظهر الحديث عن التواصل مع دول مثل الإمارات وتشاد عبر طرف دولي محايد – لمعالجة دوافعها في دعم الحرب – وعياً بالعوامل الإقليمية الضاغطة ويسعى لحلها بالحوار لا التصعيد..!
لكن القراءة التحليلية للرؤية تطرح أيضاً جملة من الملاحظات، أبرزها أنها تمنح الجيش – وتحديداً القائد العام عبد الفتاح البرهان – موقعاً محورياً في المرحلة الانتقالية، ليس فقط بوصفه القائد العسكري، بل كرئيس للمجلس السياسي العسكري. الأمر الذي قد يعيد إنتاج نسخة أخرى من السيطرة العسكرية المغلفة بالواقعية..!
تعترف رؤية حزب بناة المستقبل بأن تصفية مليشيا الدعم السريع عسكرياً أمر غير واقعي، وتقترح استيعاب القبائل المرتبطة بها، شريطة استبعاد آل دقلو، أي أنها تقف عند حدود “إسقاط الحق العام” في مقابل “الحق الخاص”، وهذة مقاربة تُرجئ العدالة إلى أجل غير مسمى، وتفتح الباب لصفقات سياسية على حساب جرائم ضد الإنسانية وقعت في الخرطوم ودارفور..!
تعترف الرؤية بدور الإسلاميين الفاعل والحاسم في الحرب إلى جانب الجيش، وتدعو إلى إشراكهم سياسياً بشرط تقديم “وجوه جديدة”، لكن هذا الطرح يفتقر إلى ضمانات حقيقية محددة تَحُول دون إعادة إنتاج مشروع التمكين السياسي والاقتصادي باسم الخط الجديد..!
الرؤية تدرج قوى الحرية والتغيير في قائمة “الداعمين للتمرد”، وهذا الحكم القاطع – إذا نظرنا إليه بعيون المجتمع الدولي المحايد – لا يكتفي بإقصاء أهم تكتل مدني في مرحلة ما بعد الثورة، بل يفتح المجال لاحتكار “الشرعية الثورية” من قبل الفاعلين العسكريين وحلفائهم..!
رؤية الحزب تكتفي بطرح عام حول “التواصل مع الدول الداعمة للتمرد” دون تقديم تصور واضح لعلاقة السودان مع الإقليم أو المجتمع الدولي بعد الحرب. ولكن في ظل واقع دولي متداخل يُعَد غياب رؤية متكاملة للدبلوماسية الخارجية ثغرة كبيرة في أي مشروع سياسي انتقالي..!
رؤية حزب بناة المستقبل تُحاول الإجابة عن سؤال كبير “كيف نُنهي الحرب دون أن نغرق في وهم السلام”، وهي بهذا المعنى تملك فضيلة الطرح المباشر والعملي، لكنها في المقابل لا تُعطي بعض الأسئلة الكبرى – حول العدالة والمساءلة والانتقال المدني الحقيقي – نصيبها من الاهتمام..!
ومبعث أهمية بعض الأسئلة الكبرى هو احتمال تحول اللحظة الراهنة من فرصة لإعادة التأسيس إلى منعطف انتقال، عبر نقطة ارتكاز جديدة لذات القوة القديمة، ولكن بأسماء جديدة!.
munaabuzaid2@gmail.com