تأثير العقوبات الأميركية على السودان وماذا يجب أن تفعله الحكومة لمواجهة ذلك
أفكار أوليّة حول تبعات تصنيف الخارجية الأميركية .. كيف تستخدم أبوظبي لوبيهاتها لجرّ السودان لسيناريو التدخل العسكري مثل ما حدث في سوريا والعراق؟!
أولاً: إعلان اليوم من الخارجية الأميركية بأنها خلُصت لاستخدام الجيش السوداني لأسلحة كيميائية هو إعلان كاذب وتلفيقي، ولكنه تطور جادّ ومزعج ولا يجب الاستهانة به، بل يجب أن تستنفر كل إمكانيات الدولة وعلاقاتها وتحالفاتها لمحاولة حصاره وبسرعة، فما يمكن أن يترتب عليه ليس أمراً هيّناً. إن إعلان الخارجية الأميركية اليوم هو أكبر هجوم دبلوماسي تقوم به سلطات أبوظبي منذ المحاولة الفاشلة في إعادة انتاج دورها من معتدي إلى وسيط في منبر جنيف -أغسطس 2024.
ثانياً: يجب أن نقول ونوضّح أن السودان لم يمتلك، ولم يسعَ لامتلاك، ولم يحاول تطوير سلا.ح كيماوي في أي وقت، بل تم انتخاب السودان منذ عدة أشهر كعضو في اللجنة التنفيذية لمنظمة حظر استخدام السلا.ح الكيما.وي، وهو موقع بالتأكيد لا تُنتخب له لو كانت هناك رائحة لاستخدام سلا.ح كيماوي، وهي المنظمة المناط بها التخلص من ترسانات الدول من السلا.ح الكيماوي إن وُجد، ومراقبة تطوير وامتلاك والتحقيق في حالات استخدام السلاح الكيما.وي، والمنظمة ليس لها أي بيان عن أي نشاط أو شبهة حول السودان في هذا الصدد.
ثالثاً: يجب أن أن نعرف أن العقوبات المذكورة في قرار الخارجية قيمتها ليست فيما ذكرته، بل فيما ستستغله سلطات أبوظبي وشبكاتها الإعلامية والسياسية في السودان والإقليم وحول العالم، فلا السودان يقوم باستيراد سلع أميريكية، ولا تقوم أميركا بتوفير قروض للسودان، فأبوظبي ترى في السودان الدولة الوحيدة في مسار حروب الوكالة التي تخوضها لتفكيك وإضعاف واستغلال وتفتيت الدول والمجتمعات، الدولة الوحيدة التي صمدت بل وهزمت مخططها، وتقوم بفضحها صباح مساء على المنصات وفي المؤسسات.
رابعاً: إن التصنيف الأميركي الكاذب والمضلل هو أمر سعت له دولة الشر والعدوان لذاته، لتستخدمه في الشق السياسي والدبلوماسي والإعلامي في حرب الجيل الرابع الذي تخوضها لاحتلا.ل السودان، واستتباع مؤسسات أمنه القومي، فإذا كانت مليشيات شيطا.ن العرب الغا.زية تنهار في الميدان، وسياسييها مرفوضين من السودانيين، فهي تسعى لاكتساب روافع جديدة ضد الدولة السودانية على الساحة الدولية لرفضها الاعتراف بأنها في مسار الفشل والهزيمة.
خامساً: لا يجب أن يختلف أي شخصين عاقلين على أن هذا التصنيف الكيدي والخاطئ ناتج من تحركات من نظام دولة العدوان المستمرة ضد السودان، واستغلالها لعلاقاتها مع الإدارة الأميركية، خصوصاً مع طبيعة الشاغل الجديد للبيت الأبيض، وعدم وجود أي استراتيجية أميريكية تجاه السودان، مما يجعل الأدوات الأميركية غير العسكرية مستتبعة للأجندة الاستعمارية للإمارات.
سادساً: بدأ هذا التصعيد الجديد من دولة الشرّ تجاه السودان في يناير الماضي عندما مرّرت خبر مضلل لصحفي بالنيويورك تايمز، على لسان “مصدر دبلوماسي أميركي”، باعتباره الصحفي ديكلان وولش هو الذي أصدر عدد من التقارير التي تفضح تسليحها لمليشياتها عبر الحدود الغربية، بما يجعل التشكيك في “مصادره” أمراً أصعب من إن لو مررته لأحد أذرعها المعتادين في الإعلام الغربي، حيث قال الخبر بأن الجيش استخدم السلا.ح الكيماوي في منطقة نائية ضد المليشيا، وهو “خبر” يصعب جداً التحقق منه، تماماً كما التصنيف الحالي الذي لا يعتمد على أي حالات مثبتة أو تحقيق من أي جهة معتبرة.
سابعاً: في عصر “ما بعد الحقيقة” الذي نعيشه، لا يهم ما هي الحقيقة وما هو الواقع، المهم هو مدى امتلاكك لأدوات القوة والنفوذ التي تجعلك قادر على تصدير ما تريده باعتباره حقيقة، وهي الأداة الأساسية التي تستخدمها الإمارات في كل طور من أطوار حربها ضد العدوانية ضد السودان، ورأينا هذا الأمر منذ بداية الحرب باستخدام أذرعها السياسية والإعلامية المحلية، والآن انتقلت لاستغلال أدواتها الدولية داخل أميركا.
ثامناً: يريد نظام أبوظبي بهذه الحركة الجديدة أن يصنع رابط بين هذا الأمر وبين استخدام نظام حزب البعث السوري برئاسة الأسد للسلا.ح الكيماوي الذي يمتلكه ضد المدنيين في غوطة دمشق في 2013، وفي خان شيخون 2017 وغيرها،وهي هجما.ت قام بها النظام السوري ضد المعارضة المسلحة، وتطلّب اثبات الأمر تحقيق أممي بلجنة من منظمة منع استخدام الأسلحة الكيماو.ية OPCWوعرضت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وإسرائيل وغيرهم أدلة استخبارية منها تصنت على اتصالات للقيادة العسكرية السورية تناقش استخدام الأسلحة الكيما.وية، قبل الوصول لهذا التصنيف، وكل هذه الخطوات كما نعلم لم تحدث في الاتهامات الموجهة لنا، ولن تحدث لأن الأمر لا يعدو كونه كذبة وتلفيق من لوبيهات أبوظبي في واشنطن. كل الموضوع مجرد إشاعة في صحيفة غربية تحوّلت بالتكرار الكثيف من مختلف الأبواق والأذرع، مع ، أموال الإمارات التي وعدت بها ترامب -1.4 ترليون دولار- وحشد اللو.بيهات الإماراتية وحليفتها الصهـ-يونية في أميركا لسياسة رسمية من خارجية أكبر دولة في العالم.
تاسعاً: من اللمحة الأولى أعتقد أن نظام العدوان يهدف من هذه المؤامرة الجديدة لتحقيق عدة أهداف:
1- محاولة تكرار نموذج سوريا والأسد أو العراق صدام بتدخل عسكري خارجي بعد فشل نموذج ليبيا بمنازعة السيادة وإيجاد سلطة موازية للحكومة السودانية:
تسعى أبوظبي لتوسّل تدخل عسكري أميركي مباشر ضد السودان، على غرار ما حدث في سوريا -مع الفارق الأخلاقي الكبير فنظام البعث الأسد.ي نظام سُلالي ومُجرم. كانت ذريعة التدخل الأميركي وقتها محاربة تنظيم الدولة التي ظهرت بعد اتهام الأسد باستخدام سلا.ح كيماوي ضد المعارضة والمدنيين، وإسناد القوات الكردية، والسيطرة على حقول النفط السورية وأغلب الأراضي الزراعية التي كانت تنتج الغذاء.
لم تنسحب أميركا من سوريا إلا بعد أن انهار نظا.م الأسد، ويجب أن نعرف أن التدخل العسكري الأميركي في سوريا جرى في عُهدة الرئيس ترامب الأولى. حال تعذّر التدخل العسكري الأميركي المباشر، فإن أبوظبي ستسعى لتوفير غطاء دبلوماسي وسياسي أميركي في الحد الأدنى لتدخل عسكري تحشده وتموله أبوظبي ضد السودان خارج مظلة البند السا.بع الذي فشلت أكثر من مرة في توفيره بسبب الفيتو الروسي.
2- محاولة إمعان في سردية المساواة بين الدولة ومليشيا الغزو:
قامت الخارجية الأميركية تحت إدارة بايدن قبل مغادرتها للحكم في يناير الماضي بإصدار تصنيف ضد مليشيا أبوظبي تقول بقيامها بإ.بادة جماعية وتطهير عر.قي للسودانيين المساليت في ولاية غرب دارفور، واعتمدت الحكومة السودانية على هذا التصنيف الأميركي كعمود فقري لقضيتها أمام محكمة العدل الدولية، وحتى وإن رفضت المحكمة القضية شكلاً، فما يزال التصنيف الأميركي مزعج لراعي المليشيا. هذا التصنيف هو محاولة لإكساب سردية المساواة بين “الطرفين-الجنرالين” زخم جديد، وإعادة إحياء جملة أن “الطرفين يرتكبان فظائع بذات الدرجة” رغم كل التقارير الغربية التي تقول عكس ذلك، فضلاً عن أن السردية تُجافي حقائق الواقع، وبعد أن قتلت الخطوات الأخيرة للدولة تلك السرديات المصنوعة في أبوظبي، سواء في محكمة العدل الدولية، أو قرار مجلس الأمن والدفاع بتصنيف الإمارات دولة عدوان، أو المعارك الدبلوماسية التي تخوضها يومياً بعثة السودان لدى الأمم المتحدة.
3- تقويض شرعية الدولة السودانية وعزلها عن محيطها الدولي كأحد أدوات حروب الجيل الرابع:
ما تسعى إليه دولة العدوان في هذا التصنيف هو نزع الشرعية الدولية عن السودان، وعزله دبلوماسيًا عن محيطه باعتباره دولة مارقة، تمامًا كما فُعل مع العراق سابقًا، بعد اتهامه بحيازة أسلحة د.مار شا.مل لم يُعثر لها على أثر حتى اليوم.
التصنيف لا يستهدف الداخل فقط، بل يسعى لضرب وجود ومصداقية السودان في المحافل الدولية، تمهيداً لقطع خطوط الدعم والتعاطف معها دوليًا، وزيادة الكلفة السياسية لحلفاء السودان في التعامل مع دولة صُنّفت أميركياً باستخدام سلا.ح د.مار شا.مل.
4- صناعة أرضية عقوبات ممتدة ترهق الدولة وتفتح مسار التقويض البطيء:
التجربتان العراقية والسورية تعلّمنا أن اتهامات كهذه، وإن بدأت بقرار سياسي هزيل من وزارة الخارجية الأميركية، إلا أنها تفتح الطريق لمسار طويل من العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية التي تنهك الدولة، وتُستخدم لاحقًا كذريعة في المحافل الدولية لإقصاء السودان. نظام أبوظبي يسعى هنا لاختلاق “محرّك دولي لعزل السودان” كما حصل مع سوريا والعراق، ليحرم السودان من التنفس عبر علاقاته الدولية.
5- التمهيد للسيطرة على موارد السودان تحت لافتة “منع استخدام السلاح الكيماوي”:
كما أدى تصنيف نظام الأسد إلى سيطرة غير مباشرة أميركية على مناطق النفط والقمح في الشمال السوري، فإن أبوظبي تأمل في تكرار هذا السيناريو عبر إضفاء شرعية زائفة على تدخلات مرتزقتها للسيطرة على مناجم الذهب، أو الموانئ، أو الأراضي الزراعية، تحت ذريعة “منع استخدام أسلحة محظو.رة”، وربما إقناع ترامب بفائدة مرجوة في سيطرته على معادن السودان عن طريق أبوظبي.
6- شلّ قدرة السودان على المواجهة وتحويله من مهاجم إلى مدافع:
في المعركة الوجودية التي يخوضها السودان للدفاع عن بقائه وسيادته وحياة شعبه، ومع التقدم الميداني الكبير، وانفضاح دولة العدوان ودورها الخبيث عالمياً، يخدم هذا التصنيف لتحويل السودان من خانة الهجوم الدبلوماسي للدفاع، فالتصنيف –ولو كان مفبركًا– يُجبر السودان على تخصيص طاقاته الدبلوماسية والإعلامية للدفاع والرد، بدل الهجوم وكشف جرائم الغزو الإماراتي. الهدف هنا هو إشغال الدولة عن ملفات الضغط والملاحقة الدولية التي أحرزت فيها تقدمًا، وتحويلها إلى متّهم بدلاً من أن يكون هو المدّعي.
عاشراً وأخيراً: لا يجب على الحكومة التهاون في هذا الأمر، فهذا أمر جدّي ويمكن أن يتصاعد بسرعة لعمل أكثر عداءً ضد السودان، ولا يجب أن يكون الرد الحكومة حبيساً في البيانات فقط -مع أهميتها- بل يجب أن يكون هناك مبادرة واستراتيجية إعلامية ودبلوماسية هجومية مركبة ومتعددة المحاور لنزع المصداقية من هذه الافتراءات وكشف خلفياتها السياسية، وتحرك دبلوماسي كثيف وعالي التمثيل وعلى مستوى دولي واقليمي وكل المنظمات ذات الصلة، كما يجب أن يكون هناك تحرك قانوني صارم وواضح لانتزاع اعتراف بعدم صحّة هذا التصنيف، والتأكيد على أن هذه الافتراءات جزء من حرب العدوان، وسأحاول الحديث فيها لاحقا. أبوظبي لن تقبل أن تعترف بهزيمتها وبإنكسار مليشيتها ومرتزقتها الغُزاة أمام قوة وعزيمة جيش الدولة السودانية والتفاف الأمة حول حماية سيادتها ومؤسساتها وتاريخها وعراقتها. لقد أدخلت أبوظبي اليوم حرب الغزو والعدوان لمرحلة جديدة تماماً.
أحمد شموخ
23 مايو 2025