إيرادات الهيئة العامة للطيران المدني “القسمة الضيزى”

0

إيرادات الهيئة العامة للطيران المدني بين التشغيل والسلطة و”القسمة الضيزى”

بقلم محمد حمد أبوعول- “قراءة مهنية من واقع الموارد والاختلال الإداري وآثاره على مستقبل المطارات بالسودان”.

 

 

 

لطالما شكّلت رسوم الملاحة الجوية العمود الفقري لإيرادات الهيئة العامة للطيران المدني حينها، إذ كانت تمثل في كل موازناتها ما لا يقل عن 96% من إجمالي الإيرادات، بينما ظلت المطارات الولائية في حالة عجز مالي متفاوت، لا تغطي جميعها نفقات التشغيل الأساسية.

 

 

 

 

وللأمانة، لا تتعدى المطارات التي تغطي إيراداتها 30% من تكلفة التشغيل سوى ثلاث مطارات فقط آنذاك، بينما نجد أن مطارات أخرى تستقبل سنوياً عدداً محدوداً من الرحلات، وبعضها لا تهبط فيه طائرة واحدة لأعوام متتالية.

 

 

 

في هذه الفترة، برزت خطة لتقسيم الهيئة إلى جهتين: تشغيلية وسيادية. غير أن هذا التقسيم قوبل بتحفظات مهنية صريحة من عدد من الخبراء، إذ لم يتم على أساس فني أو وظيفي أو اقتصادي مدروس، بل جاء مسنوداً برؤية إدارية ترى في تبعية الملاحة الجوية للسلطة – بشقيها الرقابي والتشغيلي – ضرورة، رغم كونها بطبيعتها خدمة تشغيلية.

 

 

 

ومن أبرز الأصوات التي عارضت هذا التوجه كان المهندس موسى أبو بكر جلالين، والأستاذ ياسر عثمان عبد الهادي. وقد قال المهندس موسى حينها عبارة لا تزال حاضرة في الأذهان:

“أنعي إليكم المطارات الولائية، فلن تكون هناك موارد لبناء مطار جديد أو حتى المحافظة على بنيته التحتية القائمة.”

 

 

 

ورأى الأستاذ ياسر أن بقاء الملاحة الجوية ضمن الجانب التشغيلي هو الأنسب، فهي في الأصل خدمة فنية وإدارية تحتاج لاستقلال ومرونة لا توفرها التبعية السيادية. إلا أن اللقاء الذي كان بقاعة مركز الملاحة الجوية والذي شهد هذا الجدل الكبير، حُسم إدارياً من قبل آخر مدير للهيئة المهندس محمد عبد العزيز، الذي أنهى النقاش بالقول:

 

 

 

“هذا أمر محسوم، لا مزيد من نقاش حوله.”

لاحقاً، اجتمع كل من الإخوة ياسر عثمان، وعبد الرحمن بخيت، وشخصي، مع المستشار عماد مجيعص لإيضاح خطورة التقسيم المقترح على مستقبل المطارات بالسودان. فجاء رده صريحاً ومفاجئاً بلهجته اللبنانية:

 

 

 

“أنا على قناعة بما طرحتم، لكن ناسكم يريدون هيك.”

تكشفت بعدها النوايا الحقيقية خلف المشروع: إذ كان الهدف أن تُلحق الملاحة الجوية بالسلطة لتكون تحت يد من يتحكم في كامل الموارد. لكن مشيئة الله شاءت أن يُعيّن صاحب هذا التوجه في الجانب التشغيلي – الخالي من الموارد – فحاول لاحقاً إعادة الملاحة الجوية إلى الجانب التشغيلي التي أصبحت تحت مسؤولية السلطة حينها، ولما لم يُفلح، اتجه إلى اقتراح تخصيص نسبة من إيرادات الملاحة الجوية للمطارات تبلغ 25%، مبرراً ذلك بأن جودة الخط الملاحي تُقاس بعدد وكفاءة المطارات الواقعة عليه وان المطارات المختلفه تقدم خدمات للملاحه الجويه.

 

 

 

وتمت الموافقة على ذلك بعد عراك كبير داخل أروقة الدولة ووزارة المالية دون صدور قرار رسمي، وباتت تُعامل كأنها التزام عرفي لا توجيه مؤسسي. وقد صُرفت هذه النسبة في الأعوام الثلاثة الأولى من الفصل، وبعدها ظلت تصرف بنسب أقل بكثير وتتفاوت من عام لآخر.

إذا نظرنا إلى مطار الخرطوم بعد الفصل، على سبيل المثال، وقبل الحرب، نجد أن تخصيص عائداته كان كفيلاً بتطويره والمحافظة على بنيته الأساسية وكفاءة تشغيله، وهو ذات الأمر الذي ينطبق على مطار بورتسودان حالياً بعد الحرب.

 

 

 

لكن أن تُوظف هذه الموارد لتسيير الشركة بكاملها، فإن ذلك يؤثر حتماً على جودة الخدمات المقدمة والبيئة التشغيلية للمطار المعني.

تجدر الإشارة إلى أن شركة مطارات السودان القابضة، قبل اندلاع الحرب، كانت تدير جميع المطارات الولائية باعتبارها مرافق استراتيجية تخدم أهدافاً وطنية وتنموية وامنيه، ولو كانت تتعامل معها كمراكز ربح فقط، لأغلقت معظمها منذ زمن بعيد.

 

 

 

ومن هذا المنطلق، إن كنا نسعى للفصل المثالي بين التشغيلي والسيادي، فلا بد من إخراج خدمات الملاحة الجوية وأمن الطيران – بشقيهما التشغيلي – من مظلة السلطة، لتكونا ضمن الجانب التشغيلي (الشركة). وإن قُدّر أن أصبحت الملاحة الجوية بشقها التشغيلي جسماً مستقلاً عن السلطة وشركة مطارات السودان القابضة، فحينها يجب تخصيص نسبة ثابتة من موارد الملاحة الجوية للمطارات، لضمان استمرارية خدماتها وتطورها.

 

 

 

وختاماً، يجب أن ننظر لهذا الأمر بمنظور مهني يراعي مصلحة قطاع الطيران بالبلاد، ونبتعد عن النظرة الضيقة والمصالح الوقتية. فالجميع سيرحلون من مواقعهم سواء بالسلطة أو بالشركة، ولا ينبغي أن نورّث من سيأتي بعدنا نظاماً مشوهاً، أو نكون ممن ساهموا في خلقه.

فحتى الصمت يُعد شكلاً من أشكال المشاركة في هذا الواقع المختل.

والله من وراء القصد، وهو يهدي للسبيل.

المصدر طيران بلدنا

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.