حسين خوجلي يكتب.. ظلت الأيام والحارات صرعى .. والحكايات بتنَ في إطراقِ..!!

0

البروفيسور علي المك فتى أمدرمان المتفق عليه وظريف السودان وأديب الأدباء ونزهة المجالس، كانت له علاقة صداقة عميقة مع رجل الأعمال الطيب سيد مكي صاحب الباسطة والحلويات التي سار بشهرتها الركبان. وكان علي المك عندما يخرج من أحشاء أزقة أمدرمان العتيقة (حي السوق) يجد أن الطيب قد أعد له كرسي وثير ليقابل أصدقائه أمام محله الأنيق في شارع سوق أمدرمان الرئيسي قبل أن يغادر إلى لياليه المضيئة بالشعر، وغناء عبد العزيز داوود “الكحلي” -كما يسميه- الذي يتصاعد في سماوات الخرطوم جمالاً وبهجة وعراقة، فيزين الجلسات الفريق إبراهيم احمد عبد الكريم بمحفوظاته من الشعر الفصيح من لدن امرؤ القيس حتى بدوي الجبل والعباسي وصلاح احمد إبراهيم.

 

وكان ود المك يكسر طلاوة المجلس بحلاوةٍ اضافية، بنكاته ولطائفه وقصائد الشعراء الانجليز الكبار. فقد كان عليه الرحمة له طريقة فخيمة في قراءة اشعار الفرنجة، وعندما تتملكه النشوة كان يصيح ( أتحدى بليك وت اس إليوت وشكسبير ذاته يقروها كدة)

 

قابلته ذات مساء في عقد قران أحد أبناء عمنا سيد مكي بودنوباوي وبعد انتهاء المراسم اتجه صوب سيارته “الڤولڤو” الشهيرة والتقينا وبالأعين المنى، وكان للرجل طريقة درامية في افتتاح التلاقي قال لي بصوته المميز ونبرته الخالدة وبدون مقدمات:

 

عليك دينك يا أبو الجاز ترسل لي تسجيل كابلي الخرافي وهو يغني رائعة خليل فرح أفندي:

 

باكي وحاس

ندهت الجيلي ابو العباس

تكون العافية ليهو لباس

ومن قالولنا شاكي وحاس

مساخ احنا ومسيخ الكاس

أسر لي بأمر هذا التسجيل سعادتو نحن يا حسين خلينا ليكم السلطة والثروة مسلمين بحجة وتلك الأيام نداولها بين الناس، وخلينا ليكم باقي الطيبات بتاعة بازرعة، بحجة انكم أولاد بلد، لكن كمان ما تدسوا علينا الريدة والغناء والطقاطيق، وينفجر ضاحكاً في سعادة تشابه سعادة الأطفال ويسترسل في لطف:

 

تعرف يا أبو الجاز سعادتو ابراهيم اضاع لنا قبل أيام ليلة لا تعوض ضبط (الحلاب) -اسم الشهرة للموسيقار برعي محمد دفع الله-  أوتار عودة الذريابي واصطنع عبد العزيز في صوته مقامات، لكن أحد الحرافيش وسمار الليالي طلب من سعادة الفريق أن يقرأ علينا الطلاسم لإيليا أبو ماضي فقرأها كاملة، وشالتني الهاشمية وقرأت عليهم ترجمتها بالانجليزية، وطلب آخر في إلحاح لا يُرد من سعادتو ان يقرأ علينا نحن والردى لصلاح أحمد ابراهيم، هل تصدق يا حسين أن هذه القصيدة الكتاب لصلاح كان ابراهيم يحفظها كاملة؟

 

قلت له جزعاً والليل يقترب من هزيعه الثاني: ياخي دي صلاح سيدها ذاته ما حافظها

قال: ياخي دي عبقرية في الحفظ لا تجارى، لا تقول لي الشافعي ولا تقول لي الجاحظ ولا تقول لي الجارم، هل تصدق أن حظنا من الغناء كان يا نديماً عب من كأس الصبا وكسرة غالي عليا يمه غالي عليا،  أهم شي الحمام ونظافة الاجسام والزول اكون بسام وانفض السامر. حظنا كدة من الدنيا يا حسين، وعدته خيراً بارسال نسخة من الشريط الذي كنت ضنينا به إلى مكتبه العامر بجامعة الخرطوم.

 

وفجأة أسعدنا الهادي نصر الدين ارشيف أمدرمان والسودان المتحرك، وظريف المجالس والأندية والمجتمعات المتوج.  وكان في صحبته ثلاثة شباب تبدو عليهم الأناقة والوسامة وطلاقة الصبا قال مخاطبا علي المك:

 

يا أستاذ علي داير أعرفك بأولاد خليفة ديل ريحانة البقعة والعاصمة المثلثة لو شرفوك في أي مناسبة اعتبرها (مقضية) ومكتملة الأركان وبحضورهم تنوم قفا. المهندس دة عالم وخطيب ومأزون وأخطر من يفتتح خطبة النكاح. ودة بيطري متخصص في اقامة الدعوات وادارة أهل الطبخ واعداد الموائد وأظرفهم وأصغرهم متخصص في تظبيط الحفلة، واجلاس الجميلات وتقديم الحفلة وعشاء الفنانين، وحفظها من صعاليق الليل والدبايب. ولكل هذه الأوصاف والمواصفات فقد اسميتهم على توالي التخصصات صريع المعاني وأوسطهم صريع الصواني وأصغرهم صريع الغواني. وبعدها أطلق علي المك ضحكته المجلجلة الساخرة التي كسرت همهمات المغادرين من مناسبة عقد القران المبارك والذي احسبه الان قد صار مجموعة من الفتيان الفرسان والبنات الحسان.

 

تذكرت هذه الحادثة وانا احدث نفسي بهذا الغياب غير المبرر لمجلس وزراء الفريق أول عبد الفتاح البرهان والذي كنت أظن أنه سيذاع بين ساعة وأخرى، ولكن للأسف يغيب وكل أهل السودان ينتظرونه فما معنى أن تدير زمانا عصيباً بلا حكومة ولا وزراء ولا نجوم.

 

على أي حال إني ما زلت احتفظ بأسماء صريع المعاني وصريع الصواني وصريع الغواني فالأول يصلح في الشئون الهندسية والبنية التحتية والثاني يصلح للتجارة والتموين والثالث يصلح للثقافة أما الاعلام فله رب يحميه، فما قولكم في كفاءات يوافق عليها علي المك والهادي نصر الدين؟

 

رحم الله ذلك الزمان فقد رحل هؤلاء الظرفاء ورحل الأذكياء ورحلت الذكريات ورحل الصرعى الأحياء، ويال الحسرة فقد رحلت أيضا أمدرمان بل رحل السودان وفقدنا كل تلك النفائس حين تغافلنا عن الحراسة، ونام الرقيب وأفلت اللصوص والقتلة وشذاذ الشتات وهم يتسلقون أسوار المدينة المستحيلة، فكان عزاؤنا الوحيد ونحن نغادر صوب المنافي ترديد مقطع العمرابي الحزين:

 

ما تقول ضعت من اهمالي

انا عامل الحزم راسمالي

بس أيامي ما باسمالي

وظروفي القاسية متقاسمالي

 

 

وخزة: قال الطريفي زول نصيحة إن الدفاع عن بورتسودان يبدأ من ود مدني.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.