عزمي عبد الرازق يكتب.. برقاً في الصعيد بلدو لي بعيد
في الخريف، قبل مواسم القتل، كانت جدتي، في قريتنا المُحتلة بالجزيرة، تحدق في السحب الراكضة، وأنا كذلك، تيمم وجهها ناحية القِبلة، ثم تلتفت يمينها، تنبس بعبارتها الشهيرة، كأفضل مُخبر بأحوال السماء ” الليلة الصعيد مطران”، لم أكن أعرف أنها تقصد بالصعيد، الفاو، سنار، سنجة، الدندر، وبقية الحقول الخضراء المُستباحة ببنادق الجنجويد، وهى لبعدها، عن مراكز الميليشيا وخطوط إمدادها، كيف تسنى لها أن تطوي كل تلك المسافات، من بحري وسوبا والجبل مروراً بالشبارقة دون أن تعيقها سيارة تأمين واحدة؟ وهل غافلوا المراصد كلها، وعيون الاستخبارات وطلعات الطيران ليشقوا طريقهم عنوة إلى غابة الدندر ويروعوا الأطفال والحيوانات البرية؟ الأسئلة عمياء كعيون جدتي في شيخوختها، رحمها الله، وكذلك الأجوبة أيضًا عمياء.!!
ربما كانت سانحة لاستكناه حقيقة ما يجري، فكيف أصبحت هذه المليشيا فجأة نشطة في كل المحاور، بينما توقف الجيش حتى عن الدفاع عن ألويته الحربية، عن المواطن المغلوب على أمره، مثل تلك الأم المريضة، وهذا الشاب الذي يحمل والده المُقعد، لا يلوي على شيء، كما يقول أهل الصعيد “مسك السكة وقال يا الله”، دعنا نشاطره الحيرة: أين يذهب؟ هل ثمة مكان يعوض فقد الديار، بينما اللاجئ السوداني، طريد، منبوذ في كل مكان يفر إليه من القتل، كما لو أنه يحمل جرثومة الموت المُعدي في أنفاسه.
يا برق الصعيد، كيف أصبحت أقرب إلينا من كل مواجع الحرب، فعوض أن كنا ننتظر جيش سنار ليحرر ويحتضن مدني الجميلة، حا نحن، أصبحنا_بقدرة قادر_ في خوف على سنار، وحزن على سنجة، وقلق من المجهول على بقية المناطق الآمنة.
برقاً في سنار كبس أحشاي نار قالو لي لا ورا، هو المنظر الذي لا يسر صديق ولا عدو، دعك من جواب عثمان، رسالته المُعلقة في الماسنجر، يسأل عن زوجته وأطفاله، عن والدته المريضة، إذ أن شبكة الإنترنت مقطوعة من القرية، في الجزيرة، وجهاز الاستار لينك صادرته جحافل الغزاة. وهى الحقيقة المرة، فنحن أمام منعطف تاريخي حرج، بذات حرج الواقع وسوداويته مع توقيت العبارة، لأننا، على ما يبدو لم نعرف قيمة وطننا، والخيرات الكامنة في باطنه، لننتفع بها، شعب ونخبة عسكرية وسياسية، ولذلك أفرطنا في عدم الاكتراث وفرطنا في الأرض، الديار، حتى هبت عاصفة كولونيالية سوداء تريد الأرض خالية من السكان، وكادت تحصل عليها دون مقاومة، ساعتها، وبعد أن نعود، نستيقظ، لن يُسمح لنا بالدخول دون تأشيرة الأجانب، لأن دهمة متوحشة سطت على كل شيء.