منى أبوزيد تكتب.. هناك فرق – نظام التفاهة..!

0

“الوعي لعنةٌ مُزمنة وكارثةٌ مَهولة، إنه مَنفانا الحَقيقي”.. إميل سيوران..!

لا أذكر المناسبة السياسية التي استوجبت أن تقيم قوات الدعم السريع احتفالاً كبيراً، لكنني أذكر أن بطاقة الدعوة التي تسلمتها كان مكتوباً عليها أن الحفل الرسمي تحييه فنانة شعبية تزامن صعودها مع انتشار قوات ومؤسسات الدعم السريع في الخرطوم بعد الثورة..!

 

وقد تزامن كل هذا – أيضاً – مع ازدياد تواتر الحديث عن ثقافة الهامش، وذيوع صيت أغاني جنوب الحزام، وانتشار بعض المصطلحات الشعبية ذات المدلولات الثورية على غرار “الراسطات والسانات والواقفين قنا”..!

 

في تلك الفترة كانت صفحات الفن في بعض الصحف الرسمية ومعظم الصفحات على وسائل التواصل الاجتماعي تضج بأخبار الخلافات الداوية بين الفنانة الشابة التي أحيت ذلك الحفل الرسمي وأخرى تنتمي إلى ذات الفئة وينتهي اسمها بلقب ينتمي إلى ذات القافية. وكان كبار المسئولين في مجلس السيادة ورئاسة الوزراء يختزلون مفهوم الوقوف مع الثورة – أحياناً – في التودد إلى “الراستات والسانات والواقفين قنا”..!

 

وانتشرت – كذلك – في تلك الفترة بعض الصيغ المركبة التي تربط الحديث عن إشكاليات العنصرية ومشكلات القبلية ومساويء الطبقية الاجتماعية والمادية ببعض الصور الهابطة لفنون الهامش وثقافة الهامش. وكأن الهامش ليس فيه فنون راقية ولا قيم اجتماعية باعثة على التقدير ولا مصطلحات ثقافية عميقة لا تتعمد استفزاز “مركز الجن” بالإصرار على إضفاء صفة السوقية والبلطجة عليها..!

 

فضلاً عن ربط الكوزنة بالاحتشام في الملبس، وربط الحرية بازدراء القيم الاجتماعية والسخرية من التقاليد ومن كبار السن، وربط التحرر من سطوة العادات بالملبس العاري والسلوك المستفز، إلي آخر صور الفوضى الاجتماعية التي أعقبت ثورة ديسمبر. وكأن الثورة – التي كانت خيار الشعب – قامت لكي تقوم قيامة الأخلاق وليس لكي تتَحقق العدالة ويَعُم السلام..!

 

تلك الصور الغرائبية التي كانت تتعمد تهديد هجعتنا الاجتماعية وسلامنا الأسري هل كانت من ظواهر الحراك الطبيعي الذي يعقب الثورات والذي ينتهي إلى إعادة بناء قومي لذات المجتمع على أسس عادلة، أم أنها كانت من صور التفاهة المتعمدة والمصنوعة من قبل البعض مع سبق الإصرار..!

إجابتي الخاصة على هذا السؤال تقول إن الظروف إذا وضعت شخصاً غير مناسب في منصب لا يستحقه فإنه في الغالب لن يعتذر عن قبوله لكنه سوف يحيط نفسه بالتافهين عوضاً عن ذلك..!

 

ولسوف يتعاون معه أولئك التافهون على حماية مصالحهم المشتركة من خلال الكثير من الأساليب التافهة التي منها الاحتفاء بالأشياء التافهة والأشخاص التافهين من جهة، واستبعاد الأشياء الجيدة والأشخاص الجيدين من جهةٍ أخرى..!

 

استبعاد الجيدين يكون عن طريق تجريمهم اجتماعياً أو سياسياً، والتشكيك بمقدراتهم أكاديمياً والتقليل من شأنهم مهنياً. وكل ما من شأنه محاربة وجودهم على نحو ممنهج..!

 

في كتابه “نظام التفاهة” يتحدث أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية “آلان دونو” عن الفرق بين التعليم والتنوير. وكيف أن الناس في نظام التفاهة ينجذبون إلى المال ليس باعتباره وسيلةً للوصول إلى القيم، بل باعتباره قيمةً بحد ذاته..!

 

وفي الكتاب حديث عن الحيل التي ينزع بها الإعلام  – من خلال التلفاز كمثال – القيم الاجتماعية من خلال تقديم الفن التخريبي القائم على الوقاحة والاستفزاز إلى أفراد منعزلين اجتماعياً. فضلاً عن رؤوس الأموال الفاسدة التي تهدد الديمقراطية من خلال السيطرة على الحكومات..!

خلاصة المقال أعلاه هي جوهر الفرق بين الجهل كحدث والتجهيل كسياسة متعمدة. لذا لا بد من عقد اجتماعي جديد في سودان جديد قائم على الأنْسَنة والسِّعة والتَنوير!.

صحيفة الكرامة

munaabuzaid2@gmail.com

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.