أبكِيعان: مناحة الخراب الواقف

0

كتب الصحفي الأديب: عبد الجليل سليمان- في قريةٍ تُجهض نهاراتها قبل أن تُولد، خرج عبد الرحيم دقلو ؛ المعروف وسط جُندِهِ ب(أبكِيعان)، إلى الدنيا كخطأٍ لا يريد أحدٌ الاعتراف به.

 

طفلٌ بعينين نصف مفتوحتين، لا فضول فيهما بل شيء يشبه الفراغ الذي يُرى فيه ما لا ينبغي أن يُرى؛ فراغٌ يبتلع النظرات ولا يعيدها.

 

كبر كما تكبر النتوءات في جدارٍ مهمل: نشّازاً، قاسياً، بلا ملامح قابلة للتعاطف. لم يكن صمته حكمة، بل خواءً يتكاثر داخله؛ صمت راعٍ يراقب الإبل لا لأنه يحبها، بل لأن شيئاً في داخله لا يصلح لصحبة البشر.

 

ومع أن حياته لم تحمل بطولة ولا حتى خطأً يستحق الذكر، إلا أنّ العنف كان يجده كما يجد الماءُ أخفض نقطة في الأرض. ومن ذلك الانخفاض بالتحديد، بدأ صعوده.

 

صعودٌ مُلتبس

لم يكن عبد الرحيم ممّن تُخرّجهم التجارب أو تصنعهم الفكرة؛ كانت السلطة تبحث عن وجهٍ يمكن أن تُعلّق عليه خشونتها، فوجدته.

لم يكن يحدّق بالآخرين لأنه قويّ؛ كان يفعل ذلك لأنه لا يعرف ماذا يفعل بوجهه. ومع ذلك، ارتبك الناس، فاستغلّ ارتباكهم.

 

الرتب التي التصقت به لم تكن تعبيراً عن صعود، بل عن فراغٍ يحتاج من يملأه بأي شيء. وقد كان مؤهلاً لتلك المهمّة: رجلٌ لا يعرف لماذا يقف، ولا كيف يقف، لكن الوقوف نفسه يكفيّ ليحجب الضوء عمّن خلفه.

 

طبعٌ عابس

لم يكن غاضباً غضب الرجال؛ كان غضبه من النوع الذي يتشكّل في النفوس الخاوية: بلا مبدأ، بلا سبب، مثل شرارة تخرج من حجرٍ أُهمل طويلاً.

 

نام نصف نومٍ لأن به نصف حياة، واستيقظ نصف يقظة لأن قلبه لم يعرف يوماً إيقاعه الكامل.

حين اقتربت منه دوائر القوة، لم ترَ رجلاً، بل رأت أداة بلا صوت، قطعةً بشرية تصلح للمهام التي لا يريد أحد تلويث يديه بها.

ليس لأن فيه بأساً، بل لأن الخواء يسهل توجيهه… والخواء، إن تحرّك، يتحوّل إلى كابوس.

 

جماعةٌ مُشابهة

لم يجذب حوله رجالاً يشبهونه إعجاباً، بل لأن أرواحاً ممزّقة تنجذب إلى ما يشبه جراحها. كانوا يرون فيه مرآةً لخرابهم الخاص، فيتبعونه بلا إيمان ولا مبدأ.

 

لم يكن قائداً لهم؛ كان ثقباً أسود يبتلعهم.

ومع بدء لهيب الغرب وتمدد الشرر، وجد نفسه في الصفوف الأولى لا لأنه الأجدر، بل لأنه الأشدّ قابلية للاستعمال.

وكان يُهمس أن الجنجويد تمدّدوا بفضله، لا لأنه قوي، بل لأنه أخطر أنواع الضعف: الضعف الذي يتحوّل إلى عنف.

 

خطى مُعتمة

حين صار فريقاً، لم يكن ذلك حدثاً استثنائياً؛ كان دليلاً على أن البلاد تهوي… دخل العاصمة كما يدخل المرض جسداً منهكاً: بلا جلبة، لكن بآثار لا يمكن محوها.

كان يمشي بين مركباته لا بثقة القائد، بل بثِقل الرجل الذي يعرف أن وجوده نفسه تهديد؛ وجود لا يحتاج إلى سلاح ليُربك المكان.

كل خطوة منه كانت تُحدِث فراغاً صغيراً، كأن الشوارع تنكمش لتتجنّب أن تلمسه.

 

نهايةٌ مُعلقة

(أبكيعان) اليوم ليس حكاية، ولا بطلاً، ولا حتى شراً متماسكاً؛ إنه حادثة بشرية تمشي على قدمين.. حادثة لا يعرف الناس أين بدأت، ولا كيف ستنتهي، ولا لماذا لا تنتهي.

 

الرجل الذي خرج إلى الدنيا بعينين نصف مفتوحتين ما زال يُرى فيه ما لا ينبغي أن يُرى.

 

فراغٌ متحرك، يعيد تشكيل الخراب في كل خطوة، ويترك وراءه بلداً يحاول أن يستعيد ظله – لا لأنه كبير، بل لأنه عابرٌ ترك آثاراً لا تليق إلا بالعابرين.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.