كتب- يوسف عبد المنان- هل بمقدور الملايين الذين غادروا الخرطوم قسرًا وقهرًا العودة إلى بيوتهم بعد تحرير ولاية الخرطوم، ومغادرة آخر جندي من الجنجويد مدينة الصالحة؟
والسؤال في صياغ آخر، لماذا تأخرت الأسر التي تعيش أوضاعًا مأساوية لاجئةً في بعض البلدان، حيث تفرّق شمل أهل السودان ما بين مصر وليبيا ويوغندا وتشاد وجنوب السودان، وآخرين في تركيا، والإمارات، والسعودية والكويت، وسلطنة عمان؟ لقد لفظت الحرب مواطني ولاية الخرطوم إلى الشمالية، ونهر النيل، وكسلا والقضارف.
وتشكل الآن قضية العودة معضلةً كبيرةً جدًا يواجهها المواطن كقدر مفروض، في ظل غياب تام لأي نداءات مصحوبة بخدمات حكومية، أو أي مبادرات لمنظمات المجتمع المدني لتقدم خدمات للعائدين البؤساء
الذين لا يجدون جرعة ماء، ولا مراتب سفنجة يفرشونها علي الأرض، في غرفهم الخالية، وبالطبع لا حديث عن الكهرباء فإنها بعيدة المنال.
نعم.. العودة للديار أمنية غالية، لكن الناس يتوقون للحد الأدني من الخدمات، لشعبٍ تعرض للنهب والتعذيب والإذلال وأصبحوا فقراء لا يملكون شيئاً، وأياديهم ملتصقة بالتراب. يتقون سماع خطاب سياسي يطمئنهم بالأمن والأمان وان الديار خلت من الميليشيا إلي الأبد، وأن تهديدها الذي يخنق السودان من الشمال أصبح من الماضي. لكن، تلك مجرد أماني لا واقع لها على الأرض.
إن حكومة ولاية الخرطوم، التي خاض واليها غمار الحرب، باتت الآن عاجزة عن توفير الاحتياجات الأساسية من المياه والكهرباء، بعد أن دمرت الميليشيا قطاع واسع من البنيات التحتية لمحطات الكهرباء، ويئس الناس من عودة التيار الكهربائي، وصاروا يتجمعون في رهق لتوفير الطاقة الشمسية باهظة الثمن. وحتى يوم أمس، تتواتر أنباء – غير موثوق في صدقيتها – عن اكتمال أعمال الصيانة فقط لتوزيع أقل من 20% من حاجة البلاد من الكهرباء لثلث سكان الخرطوم.
وبعيدًا عن اتهام البعض للعاملين في قطاع الكهرباء بتوغل العملاء والجنجويد وسطهم، وسَطوة “القُحاتة” على مفاصل الشركات، وهم أصحاب مصلحة فيما يحدث من اضطراب وشح في الخدمات، إلا أن الأزمة الحقيقية تكمن في غياب الرؤية، وشح المال، وجدب الخيال في إعادة تشغيل المحطات الحرارية المتوقفة، مثل بحري وبري الحرارية، ومضاعفة الطاقة المنتجة من خزان سنار وسد مروي.
وبدا جليًا عجز الحكومة في معالجة هذه القضايا. أما المياه، فإن نصف من عاد من مواطني الخرطوم يعتمد على عربات القوات المسلحة التي تنقل المياه للأحياء النائية مجانًا، بينما تعجز الولاية عن سقاية قرية “السقاي” من ماء النيل الملوث ببقايا الجثث ومخلفات الحرب.
الهاجس الأمني يشكل تحديًا كبيرًا في ظل انتشار عصابات “تسعة طويلة” وتكاثر حملة السلاح من المدنيين، ومن ينتحلون صفة القوات النظامية، يمارسون النهب وقطع الطرق في وضح النهار. فكيف إذن يمكن عودة سكان الخرطوم؟!
العودة الحالية بطيئة ومحدودة، تقتصر على الأحياء الفقيرة التي يقطنها العمال والموظفون و”الجنقو” و”الجنجقورا”. أما سكان العمارات والرياض والمعمورة وقاردن سيتي، فلم يعد منهم إلا القيادي الكبير في حركة العدل والمساواة بشارة سليمان نور، الذي وضع بقية الساسة أمام تحدٍّ وحرج بالغ: فهل يعودون إلى بيوتهم حتى يقتدي بهم عامة الناس؟!
هناك أحياء بأكملها اليوم خالية من السكان، وتوجيهات رئيس مجلس الوزراء بالعودة التدريجية إلى الخرطوم ذهبت أدراج الرياح. وحده الفريق محمد الغالي، الأمين العام لمجلس السيادة، شق طريقه إلى الخرطوم أمس الجمعة في زيارة لمتابعة إعادة تأهيل القصر الجمهوري.
ولكن، كم من المسؤولين في حكومة السودان اليوم بهمة الفريق الغالي؟ رجل يذكّرك بعزيمة أحمد هارون، وهمة عوض الجاز، وصرامة جعفر نميري، وانضباط زين العابدين محمد أحمد عبدالقادر. أما وكلاء الوزارات، فمستقرّون في دفء ليالي بورتسودان، فما الذي يدفعهم للعودة إلى الخرطوم، حيث الظلام، والحر، وشح المال؟!!
لكن، إذا صدق مدير جامعة النيلين، وفتحت الجامعة أبوابها، فإن بقية الجامعات يمكنها العودة تدريجيًا، وتدب الحياة في الخرطوم خلال ستة أشهر، إذا استطاعت الحكومة تقليل ساعات قطع التيار من 12 ساعة إلى 6 ساعات يوميًا.
أما التحدي الأمني، فهو عنوان عجز القادرين على الفعل، وافتقادهم للإرادة التي تمثل كل شيء.
2
لو إنتقل أي من الفريقين شمس الدين كباشي أو ياسر العطا إلى مدينة الأبيض، وأمسك أحدهما بمقود عمليات تحرير الأرض، لقضى “الصياد” على ما تبقى من الميليشيا في غرب، وشمال، وجنوب كردفان.
لكن، انشغال هؤلاء القادة بتشكيل الحكومة، وإعادة التفاوض مع الحركات المسلحة، أدخل الإحباط العميق في نفوس أهل كردفان، وحرّك شيطان الفتن في ما بينهم، حتى بدأت الميليشيا تتسيد المشهد السياسي من جديد، بعدما كان “الصياد” قاب قوسين أو أدنى من الالتحام مع جيش اللواء 54 الدلنج لتحرير جبال النوبة من الحصار.
ولا يزال الأمل كبيرًا أن يقود كباشي أو العطا العمليات من الأبيض أولًا، لتنسيق الجهود، وتوحيد الفصائل المقاتلة، وتوفير احتياجات الجيش من عدة وعتاد وموارد بشرية. وبما يملكه الفريقان من سلطة سياسية وعسكرية، فإن وجودهما في الميدان يرفع من همم الرجال.
وحين اشتدت الأوضاع سوءًا في الجزيرة وسنار، انتقل كباشي إلى كوستي، ومنها انطلقت القوات المسلحة لتحرير جبل موية والجزيرة والخرطوم. ولولا قيادة العطا للعمليات من كرري وسلاح المهندسين، لما انكسرت الميليشيا ونتف ريشها.
لكن، قبل أن يطير العطا أو كباشي إلى الأبيض، فإن عروس الرمال في أمسّ الحاجة إلى والٍ مقاتل ومجاهد، بدلًا من هذا الوالي، الذي أحاط نفسه بـ”القحاتة” وأنصار الجنجويد من الضباط الإداريين تحت سلطته، وعادت واجهات قوى الحرية والتغيير الداعمة للجنجويد، من خلال ما يسمى بـ”لجان الطوارئ”، التي تنشط الآن وسط نازحي النهود والدبيبات. ومثل هذه اللجان، هي التي أسقطت النهود من الداخل. بقاء الوالي عبدالخالق وتهاونه مع الجنجويد في الأبيض يهدد بسقوط المدينة، حيث تأتي الأخبار تباعاً تؤكد تسلل دعامة إلى داخل الأحياء، وصاروا خلايا نائمة، مثلما هو الوالي نائم، نومة من تضخم وزنه أضعافاً مضاعفة، حتي صار محل همس في مجالس المدينة.
طالما دعا أهل كردفان إلى تعيين ابن المنطقة والمقاتل المخلص في معركة الكرامة عبدالله محمد علي بلال، لكن ذهبت المناشدات أدراج الرياح.
أمس، حدثني الأخ أحمد جميل الله، السياسي والتنفيذي السابق، وأمين حركة العدل والمساواة بكردفان، بأنهم في الحركة يعتبرون عبدالله بلال رجل المرحلة، والوالي القادر على حشد الناس والقضاء على الميليشيا. وهذا أيضًا رأي زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي بالأبيض، والقيادي بحزب الأمة إبراهيم آدم، واللواء حسين جيش، واللواء أحمد حجر.. فماذا تريد الحكومة أكثر من ذلك؟!
رجل يستطيع الحشد، ومتابعة العمليات، وحسن إدارة الإقليم. عسكري بملابس مدنية، وإسلامي بروح وسلوك قومي.
فماذا تنتظر الحكومة؟
إلى متى تقف في المنطقة الرمادية حتى تسقط الأبيض، ويمكث عبدالخالق مع الجنجويد، كما مكث اللواء جايد في النهود 12 يومًا مع الجنجويد ولم يخدش بإبرة، بينما كان الناس يُقتلون ضحى النهار؟!
لم تترك الميليشيا قطعة من تراب كردفان إلا وقد بللتها بالدم، ولم تُبقَ قرية نائية في أرياف الأبيض الجنوبية إلا وقتلت فيها عشرات الشباب، كما حدث في مجزرة قرية لمتنا، ريفي كازقيل، حيث هجمت عناصر الجنجويد في ليلٍ بهيم على القرية، فقتلت وجرحت ونهبت وسرقت.
وفي مدينة بارا المكلومة أحتلها الجنجويد، ولسخرية القدر مليشيا الجنوبين سكنوا بيوت بارا، وتشرد الليمون الذي غني له دكتور عبدالقادر سالم، وحدث عن أرياف بارا الجنوبيه، وقرى جبرة الشيخ وقرى أم قرفة، فقد استباحت المليشيا دار الريح بأكملها حتي دار المجانين في المزروب، وجعلت الميليشيا قبر الناظر تمساح يموج غضبًا، وهو الغالي تمر السوق، بينما لم يعد الإنسان اليوم غاليًا في كردفان، وذهبت صرخات الأستاذ محمد التيجاني عمر قش مثل الأذان في مالطا!!
وفي ريفي شمال الدلنج (محلية القوز)، شكّل مقتل الشيخ مصطفى عبد الحميد خالد، والشيخ عبد الله الحاج محمد مالك، مأساة أخرى ضمن سلسلة المآسي التي تعيشها المنطقة منذ دخول الميليشيا في مثل هذا اليوم قبل عامين، في الثامن والعشرين من يونيو.
وإذا كانت المجموعات السكانية التي تقطن في محلية القوز من قبيلة الحوازمة تعتبر – كما يدّعي البعض – من حواضن الجنجويد، ويباهي أنصار الميليشيا بذلك، فإن الجنجويد أنفسهم لم يتركوا دمعةً لم تُقطر دمًا حزنًا على مئات الرجال والنساء الذين قُتلوا غدرًا وظلمًا وطغيانًا على أيدي الميليشيا. وبذلك، فإن الحوازمة هم أول ضحايا الميليشيا.. نعم، فرّقت الميليشيا بين الحوازمة، ومزّق الناظر الهادي وحدتها التي ورثها عن أجداده، فاحتضن البعض ولفظ أغلبية المكون، وكان الانتقام من كنانة والتكارير وبني فضل وخزام وبرقو. لم تمس الميليشيا أموال وأعراض بعض الأشخاص، إما خوفًا من بطشهم أو حرصًا على التفريق بين الناس.
ومنذ سقوط الدبيبات الثاني، فرّ الآلاف نحو الأبيض، ولم يبقَ سوى عناصر الدعم السريع التي تقتات من عرق الأبرياء. وقد تمددت الميليشيا الآن وأصبحت على بعد سبعة عشر كيلومترًا فقط من الأبيض جهة الجنوب، بعد أن كانت على بعد مائة كيلومتر.
ولم تنهض حتى الآن المقاومة الشعبية التي وُئدت وقُتلت. ومن دون هبة شعبية كبيرة – لا على طريقة “حمر صر” التي أسقطت النهود – لن تتحرر كردفان من قبضة الجنجويد.
ومع سقوط حمد الصافي في قبضة القوات المشتركة معتقلاً، يمكن القول إن الميليشيا قد تشن عمليات انتحارية لقطع طريق الأبيض – كوستي، بدلًا من فتح طريق كادقلي – الدلنج – الأبيض.
إن وجود قيادة فاعلة، وانتقال إدارة العمليات من الخرطوم إلى الأبيض، وسد الثغرات التي يتسلل منها دعاة الفتنة لضرب العلاقة بين الجيش والقوات المشتركة، ومنع استخدام الحقائب الوزارية كأداة لبعثرة الصف المقاتل، هي ضرورات الساعة.
وفي هذه الأيام، فرح “القُحاتة” بالخلاف الذي فاحت رائحته، لكن الفريق البرهان قادر على لملمة أطراف القوى التي تسند الجيش، وتُقوِّي الصف، وتُسهم في هزيمة الميليشيا، بل القضاء عليها تمامًا في كردفان، ثم دخول دارفور.