كتب عميد شرطة (م) عمر محمد عثمان مقالا تحت عنوان “رسوم النيابة العامة” قائلا: أثار القرار الصادر عن وزير المالية، القاضي بفرض رسوم على بعض أعمال و إجراءات النيابة العامة، جدلاً واسعًا في الأوساط القانونية والشعبية، وهو قرار تم اتخاذه بناءً على توصية من النائب العام. ورغم أن أغلب الآراء التي تناولت القرار جاءت رافضة له بشدة، فإن ذلك يستدعي الوقوف أمام هذا القرار بقراءة متأنية.
بدايةً، من المهم التذكير بأن قانون النيابة العامة لسنة 2015م قد منح النيابة العامة سلطة فرض رسوم على بعض الخدمات، واعتبر هذه الرسوم أحد مواردها المالية، شريطة أن يتم ذلك وفق إجراءات وضوابط محددة. وبذلك، فإن القرار الأخير لا يُعد تأسيسًا لفرض الرسوم، بل تفعيلًا لصلاحية قائمة ومقررة منذ عشر سنوات. وهذه واحدة من أوجه قصورنا كقانونيين، إذ كثيرًا ما نأتي متأخرين، ويا حبذا لو أُقيمت وقتها دعوى أمام المحكمة الدستورية للطعن بعدم دستورية فرض رسوم على أعمال وإجراءات النيابة العامة.
ومع التسليم بأن القرار، وفقًا للقانون الساري، يُعد صحيحًا ما لم يُحكم بعدم دستوريته، فإن هذا التفعيل المتأخر يثير تساؤلات عميقة حول توقيته وأبعاده القانونية والاجتماعية.
إن النيابة العامة، بحكم موقعها المركزي في منظومة العدالة الجنائية، ينبغي أن تحظى بتمويل كامل من الدولة يضمن استقلالها وفعاليتها، لا أن تتحول إلى جهة ذات طبيعة إيرادية تعتمد على رسوم تُفرض على المواطنين. فالعدالة ليست خدمة تجارية، بل التزام سيادي لا يُقدّر بثمن. وقد تنبّه العديد من المفكرين والفقهاء إلى خطورة تحويل العدالة إلى عبء مالي على كاهل المواطن. يقول القاضي البريطاني الشهير اللورد دينينغ (Lord Denning):
“Justice must be accessible to everyone. There can be no price tag on the right to be heard.”
“يجب أن تكون العدالة متاحة للجميع. لا يمكن أن يوضع ثمن على الحق في أن يُستمع للمرء.”
إن فرض رسوم على خدمات النيابة العامة – ولو استند إلى نص قانوني – قد يُفهم على أنه يضع ثمنًا للعدالة، ويمسّ مبدأ المساواة في الوصول إليها، خصوصًا في ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة. وقد سبق للمفكر الفرنسي مونتسكيو أن قال في كتابه روح القوانين:
“Liberty cannot be established without a fair and free judicial system.”
“لا يمكن ترسيخ الحرية بدون نظام قضائي عادل ومجاني.”
نحن نتفهّم الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد في ظل ضعف الإيرادات الحكومية، ورغم ذلك، فإنّ الدولة ملزمة – بموجب المبادئ الدستورية – بتمويل مؤسسات العدالة، دون أن تنقل هذا العبء إلى المواطنين. فالتضييق المالي على المتقاضين يُعد عائقًا حقيقيًا أمام العدالة، كما أنه يُضعف الثقة الشعبية في مؤسسات الدولة العدلية، وهي مسألة خطيرة على المستويين المؤسسي والمجتمعي.
وختامًا، و على الرغم من الغطاء القانوني لهذا القرار، فإننا نرى أن تمويل النيابة العامة ينبغي أن يكون من مسؤولية الدولة، لا من خلال إرهاق كاهل المواطن برسوم إضافية. فاللجوء إلى جيب المواطن لتمويل المؤسسات العامة يُعد حلاً سهلاً لا يستند إلى تفكير استراتيجي أو رؤية شاملة لإدارة الدولة. إن الدولة لا تُدار بردود الأفعال أو عبر حلول مؤقتة تُعالج العجز على حساب المواطن، بل تُدار برؤية كلية شاملة. لقد صبر الشعب السوداني كثيرًا، وتحمل ما لا يطيقه غيره، رغم أن بلاده غنية بالموارد. وما من عذر يبرر أن تدفع الدولة بفشلها في إدارة هذه الموارد إلى المواطن. بعض القرارات، للأسف، لا تحمل سوى “شيل قباحة ساي”، نظراً لما تخلّفه من استياء شعبي وشعور بأن العدالة أصبحت بمقابل. ولست متخصصًا في الاقتصاد، لكنني أشك في أن العائد السنوي المتوقع من هذه الرسوم يُعادل حجم الغضب والرفض الذي أثارته، سواء في أوساط القانونيين أو عامة الناس.
ترتيبًا على ما تقدم، فإنه من الضروري مراجعة هذا القرار، فالمراجعة تُعد ممارسة مسؤولة في إطار الحوكمة الرشيدة، ووسيلة لتصحيح المسار بما يراعي المصلحة العامة ومبادئ العدالة. ومن هذا المنطلق، نناشد السيد النائب العام، والسيد وزير المالية، مراجعة هذا القرار في ضوء التبعات القانونية والاجتماعية والاقتصادية المترتبة عليه، وتحمل الدولة مسؤولياتها الكاملة تجاه موازنة النيابة العامة، صونًا لدورها في خدمة العدالة.
عميد شرطة (م)
عمر محمد عثمان
1 يونيو 2025م
الحمد لله هنالك أناس خصهم الله بقول الحق في أي مكان واي زمان ومهما كان موقعه.
لماذا صمت القانوني ن طوال هذه الفتره ولم يقولوا في أمر تحصيل النيابه مبالغ من الذين يتقدمون بعرائض.
احييك يا كمن أن. مثلك لا ينبغي أن يكون في المعاش أيها البطل.