ضياء الدين بلال يكتب.. (صدق أو لا تصدق)
سمعتُ عنه كثيراً في أرجاء ولاية الجزيرة، وتحديداً في مدينة ود مدني. لم أُصدّق أغلب ما قيل؛ فقد علمتنا الصحافة أن نرتاب في الروايات الشفاهية، مهما تشابهت… كثير من القصص الواقعية الصغيرة تُضاف إليها مادة “بروميد البوتاسيوم”، فتكبر وتنتفخ في الخيال، أضعاف وزنها الحقيقي.
وفي علم مصطلح الحديث، يُعرَّف “المتواتر” بأنه: “ما رواه جمعٌ يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب.”
سمعتُ، واتصلت، وتحققت… فلم أجد إلا تطابقاً شبه تام في الروايات، مع اختلاف طفيف في التفاصيل.
قصةٌ أقرب للخيال، وربما تصلح لأن تُدرج في فصول روايات غابرييل غارسيا ماركيز، أو في عمل يشبه رائعة باتريك زوسكند “العطر”.
عرفتُ اسمه منذ الصغر؛ إذ سُمّي أحد أشهر عنابر مستشفى ود مدني باسمه: عنبر شيخ العرب، وهو عنبر للفقراء والمساكين ومرضى السبيل.
كان “شيخ العرب” من تجّار المحاصيل؛ طويل القامة، قوي الشكيمة.
في زمنٍ كان فيه “القمح، أقمح”، و”السمح، أسمح”، وكان للقرش طعمٌ ومذاق ورائحة.
زمنٌ كانت فيه الجزيرة خضراء تُسرّ الناظرين، وود مدني فتاة حسناء مشاغبة؛ تُغري ولا تُنال، قادرة -دون تحريض- على صناعة الابتسامة، يوم كانت الابتسامة طبيعية، بلا إضافات كيميائية.
وقتها، لم تكن المدينة بحاجة إلى لافتة تقول: (ابتسم، أنت في ود مدني).
ترك شيخ العرب الدنيا وما فيها، ليتفرغ لأعمال لا يقوم بها سواه.
تحرّك داخل مستشفى ود مدني بطاقة جمعية خيرية، وبإمكاناتها.
كان يقضي ليله في حفر القبور لموتى افتراضيين لم تخرج أرواحهم بعد، وعندما يُنهكه التعب، ينام في أحد القبور الجاهزة، حتى يوقظه مُوقظ.
تفرغ تماماً لرعاية الفقراء والمساكين، فاقدي السند والاهتمام الأسري؛يطعمهم، ويكسوهم، ويشتري لهم الدواء، بل كان يعينهم بنفسه على قضاء حوائجهم الطبيعية.
كثيراً ما غسل ملابسهم، وحتى أجسادهم بعد الوفاة!
كانت أكفانه جاهزة، وعطوره معدّة، يفعل كل ذلك دون منٍّ أو رياء، ولا انتظاراً لفلاشات المصورين أو احتفاء صفحات المنوعات.
بل كانت مصحة الأمراض النفسية والعقلية في المدينة تستعين به أحياناً لغسل المرضى وتنظيفهم.
ما كان يفعله شيخ العرب، من أفعال استثنائية، تقترب من الكرامات، لا تقوم به اليوم منظمات وُضعت لها ميزانيات، وسُلمت عربات دفع رباعي!
ويا للمفارقة المؤلمة…قبيل الذكرى العشرين لرحيل “شيخ العرب” عن الدنيا ، رحل بهدوءٍ مأساوي مريضٌ بسيط يُدعى علي آدم ، من أحد العنابر المهملة في مستشفى ود مدني!
روى قصته مراسل هذه الصحيفة الهمام “عمران الجميعابي”:
المريض نُقل للمستشفى بعد تعرضه لحادث سير، وأجريت له عملية جراحية لكسر في الفخذ.
تلقى العلاج، لكن غياب مرافق يشاطره آلامه، جعل حالته تتدهور شيئاً فشيئاً… حتى صار هيكلاً عظمياً، ثم تلاشى!
قال مصدر طبي لعمران: (عدم وجود مرافق للمريض لتقديم المساعدة في الاستحمام وغسل الملابس وغيرها، أدى لانبعاث روائح كريهة من العنبر، ما اضطر إدارة المستشفى لإفراغه وترك المريض وحيداً فيه!).
رحل “محمد” عن الدنيا بكسرٍ في الفخذ، وطعنةٍ في الخاطر، وجرحٍ في الوجدان!
رحل في زمنٍ غاب فيه شيخ العرب، ولم تحضر فيه منظمات الرعاية ولا صناديق الضمان.
يحدّثنا زميلنا الأستاذ/ محمد شيخ العرب عن والده، وكيف أن روائح عطور الموتى لم تكن تفارق ملابسه، وكيف أنه كان فاقداً لحاسة الشم.
شيخ العرب كان الوجه الآخر لغرنوي، بطل رواية “العطر”!
وإن كانت عظمة “جان باتيست غرونوي” أنه امتلك أنفاً خارقاً لتمييز الروائح، فإن شيخ العرب حُرم من حاسة الشم… ليقوم بمهام لا يقدر عليها سواه.
ما حُرِم منه جسده، فتح له بابًا للعطاء الخالص؛ لم يكن أنفه يشم، لكن إنسانيته كانت تفوح، تملأ المكان، وتخفف الآلام.
وتلك، لعمري، هي الكرامة الكبرى!