كتب- إبراهيم عدلان- تحت عنوان “مسارات صعود وهبوط الناقل الوطني “سودانير”.. نظرة فاحصة.. مقدمة- في إطار اهتمام الباحث الأكاديمي في شؤون الطيران المدني، الدكتور علاء الدين أبو العاص، بتوثيق مسارات تطور النقل الجوي في السودان، طُلب إعداد مبحث تاريخي يتناول مسيرة الناقل الوطني سودانير، وما شهدته من صعود باهر ثم انحدار متسارع.
تعكس هذه الورقة قراءة تحليلية لمسار الناقل الوطني عبر محطاته التاريخية، بدءاً من البدايات القوية في خمسينيات القرن الماضي، مروراً بمرحلة النمو والازدهار، ثم التحولات السياسية والاقتصادية التي قادت إلى الانهيار، وصولاً إلى محاولات الشراكة الخارجية الفاشلة التي مثلت نقطة “الانكسار” الحقيقية.
البدايات القوية: سفريات الشمس المشرقة
تأسست الخطوط الجوية السودانية في مناخ سياسي واقتصادي مشجع، وعززت مكانتها عبر شراكتها الأولى مع شركة إيرويرك البريطانية تحت اسم “سفريات الشمس المشرقة”. وقد شكلت تلك المرحلة اللبنات الأولى لنهضة النقل الجوي السوداني، إذ امتلكت سودانير أسطولاً حديثاً ضم طائرات فيسكاونت وكوميت البريطانية، إضافة إلى دوغلاس دي سي 3 ودي سي 4 الأميركية، ثم تلتها صفقة الطائرات الهولندية فوكر قبل دخولها عصر البوينج.
لقد لعبت الظروف الاقتصادية المواتية آنذاك، وفي مقدمتها عائدات صادرات القطن وارتباط السودان بالاقتصاد العالمي، دوراً محورياً في تمكين الناقل الوطني من مواكبة أحدث ما أنتجته مصانع الطائرات، ما عزز مكانته الإقليمية وسمعته الدولية.
بدايات التراجع: الاقتصاد المنهك قبل الحصار
عند البحث في بدايات الانحدار، فإن المقاطعة الاقتصادية الغربية التي فُرضت في النصف الثاني من التسعينيات لا تمثل نقطة البداية الوحيدة. فالانهيار الاقتصادي الداخلي سبقها بسنوات، إذ شهد السودان تدهوراً حاداً في قيمة الجنيه السوداني، وتفاقم معدلات التضخم إلى مستويات غير مسبوقة. هذا التآكل في القوة الشرائية للعملة انعكس مباشرة على تكلفة التشغيل، وصيانة الأسطول، والتعامل مع الأسواق العالمية.
المقاطعة الاقتصادية وانهيار النظام المصرفي
مع دخول المقاطعة الغربية حيّز التنفيذ، تضاعفت الأزمة. فقد أدى انهيار النظام المصرفي إلى صعوبة فتح الاعتمادات المستندية، وغياب القنوات المالية السليمة للتعامل مع الموردين والممولين. كما أن إدخال طائرات الإيرباص 300 و310 لم يدم طويلاً، إذ سُحبت الطائرات سريعاً من قبل البنوك الممولة نتيجة عجز الشركة عن الوفاء بالالتزامات المالية.
التدخلات السياسية وتفكك بيئة العمل
أحد أبرز أسباب التراجع كان التدخل السياسي المباشر في إدارة الناقل الوطني. بدلاً من اتباع المعايير المهنية في التشغيل والتخطيط، تحولت سودانير إلى ساحة لتجاذبات القوى الحاكمة.
كما أُهملت حقوق العاملين المشروعة بما فيها الحقوق الجليلة (Royalties)، ما أدى إلى تآكل كفاءة القوى العاملة وخروج الكفاءات المدربة إلى شركات الطيران الإقليمية والعالمية.
الأزمات المالية والإجراءات المدمرة
واجهت سودانير بيئة مالية شديدة التعقيد:
• انحسار الشركات العالمية العاملة في السودان بسبب صعوبة تحويل عوائد البيع نتيجة شح العملات الصعبة.
• لجوء الحكومات المتعاقبة إلى الاستدانة من النظام المصرفي وتمويل العجز عبر طباعة العملة بلا غطاء، وهو ما أدى إلى انفلات التضخم وتضاعف الأزمة.
• فقدان الخرطوم لمكانتها كمركز إقليمي لتزويد الطائرات بالوقود بعد انسحاب الشركات الكبرى مثل شل وتوتال وموبيل، ما أفقد الناقل الوطني ميزة استراتيجية في سوق الطيران.
الشراكة الفاشلة: نقطة الانكسار
مثلت صفقة الشراكة مع شركة عارف الكويتية في منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة منعطفاً خطيراً. فقد كانت الآمال معقودة على دخول سودانير في شراكة استراتيجية مع إحدى الشركات العالمية الكبرى بما يضمن نقل المعرفة والتقنيات الحديثة وإعادة الهيكلة. غير أن اختيار “عارف” – وهي شركة محدودة الخبرة في مجال النقل الجوي – جاء بدوافع سياسية أكثر منه اقتصادية.
انتهت هذه الشراكة إلى تفكيك الأصول وتصفية ما تبقى من مقومات الناقل الوطني، لتشكل ما يمكن وصفه بـ نقطة الكسر (Braking Point) التي تسارعت بعدها خطوات الانهيار.
الخاتمة
تكشف تجربة الناقل الوطني السوداني عن مسارٍ معقد تتداخل فيه عوامل اقتصادية وسياسية وجيوسياسية. فمن صعود مدوٍ في الخمسينيات والستينيات إلى انحدار متدرج بلغ ذروته في العقود الأخيرة، كانت سودانير مرآةً عاكسة لحالة الاقتصاد الوطني وإدارة الدولة. إن إعادة إحياء الناقل الوطني في المستقبل لن تتحقق إلا عبر معالجة جذرية لمواطن الخلل: إصلاح الاقتصاد الكلي، فصل السياسة عن إدارة المؤسسات، إعادة الثقة بالنظام المصرفي، والدخول في شراكات استراتيجية حقيقية مع لاعبين عالميين.