كشف تفاصيل 720 ألف دولار قيمة إيجار قصر برطم في بورتسودان رفض كامل إدريس الإقامة فيه
كتب- عوض الله نواي – مدير وكالة One Press للتحقيقات الصحفية والإعلام، مقالا تحت عنوان ” قصر برطم” قائلا: من الذي كان يسكن قصر رجل الأعمال الشهير أبو القاسم برطم بمدينة بورتسودان؟
ذلك القصر الفخم الذي وُضع في خدمة أحد أعضاء مجلس السيادة خلال فترة حساسة، وكان يُستأجر بمبلغ شهري يُقدّر بـ 30 ألف دولار، أي ما يعادل 360 ألف دولار في العام، وفي مجمل المدة التي قُضيَت فيه وصل الرقم إلى 720 ألف دولار، وفق ما تكشفه تسريبات مقربة من مكتب إدارة القصر الرئاسي المؤقت.
نعم، إنه السيد شمس الدين الكباشي، عضو مجلس السيادة، الذي اتخذ من ذلك القصر مقرًا لإقامته أثناء وجوده في بورتسودان، بينما كانت البلاد تئن تحت وطأة الحرب والنزوح، وأجهزة الدولة تشتغل بالإغاثة الطارئة والتفكك المؤسسي.
في مفارقة تكشف الفوارق الأخلاقية قبل السياسية، رفض رئيس الوزراء الجديد كامل إدريس الإقامة في نفس القصر، معتبرًا – بحسب ما أورد الصحفي عبد الباقي الظافر – أن التكلفة باهظة جدًا، بل “غير منطقية” في ظل الأزمة المالية التي يعيشها السودان، نافيًا أن يكون قراره ناتجًا عن تفضيل مكان آخر، وإنما فقط من منطلق وطني وأخلاقي وحرص على المال العام.
قرار إدريس في هذا الظرف لا يُعد فقط خطوة رمزية، بل يعبّر عن منهج مختلف في ممارسة السلطة، قد لا يعجب كثيرًا من رموز النظام السابق أو المتنفذين من بقايا تحالفات “المنفعة”، لكنه يُرضي الشارع المتألم ويعيد تعريف “القيادة” بعيدًا عن مظاهر البذخ السلطوي.
لكن في المقابل، طرحت حكومة إدريس نفسها أمام تحدٍّ جديد، حين قررت فتح باب المنافسة العلنية على المناصب الوزارية، وهي خطوة تبدو للوهلة الأولى عنوانًا للشفافية، ولكنها اصطدمت بأسئلة صعبة تتعلق بالآليات والعدالة الزمنية في التقديم، إذ أُعلن عن المنافسة لمدة 72 ساعة فقط، دون توضيح دقيق لطبيعة الوظائف أو حتى معيار الفرز، ما حوّل الفكرة النبيلة إلى حلبة ارتباك وبيروقراطية.
في بلد شاسع مثل السودان، لا يستطيع المواطن في الفاشر أو كوستي أو الدندر أن يُعد سيرته الذاتية ويحصل على ختم تأييد أو يملأ استمارات الخدمة العامة في غضون ثلاثة أيام، ثم ينافس على ما لم يُفصح عنه بوضوح.
الشفافية لا تكتمل بالإعلان وحده، بل تُبنى على أسس واضحة: تحديد الوظائف، الشروط، مراحل المفاضلة، ونشر النتائج. أما إذا تحوّل “العطاء الوزاري” إلى تجربة بلا ضوابط، فإنها ستنتهي بخلق نخبة جديدة من الخصوم السياسيين لرئيس الوزراء، وستفتح الباب للهتاف ضد “المحاصصة المقنعة” بدلًا من هتاف الأمل بالتغيير.
إن الأفضل – والأكثر جدوى – كان يتمثل في إنشاء ديوان دائم للكفاءات الوطنية، يُدار بمهنية، ويُستقبل فيه طلبات التوظيف للمناصب العليا، بحيث يتم اللجوء إليه تلقائيًا كلما شغر منصب. وعندها، لا يحتاج رئيس الوزراء إلى أكثر من ضغطة زر، فيجد أمامه قائمة بالأنسب، من داخل السودان وخارجه، ليُحسن اختيار من يخدم الشعب لا من يخدم نفسه.
إن السودان في حاجة إلى عقل سياسي متجدد وروح إدارية جادة، لا إلى قصور تُستأجر ولا قرارات تُتخذ بالعجلة.
وهذه مهمة تستحق أن تبدأ من قصر برطم… لا أن تنتهي عنده.