السودان: حكومة مدنية جديدة تحت دوي البنادق

0

بقلم – شمائل النور- يأتي تعيين رئيس الوزراء، كامل إدريس، بعد تحقيق الجيش تقدماً ميدانياً واسعاً، حيث استعاد السيطرة على جنوب شرق ووسط البلاد، بما في ذلك العاصمة الخرطوم، وانتقل ثقل المعارك غرباً، حيث تشهد مناطق كردفان المتاخمة لإقليم دارفور اشتباكات مستمرة، يتبادل فيها الطرفان السيطرة على مناطق حيوية، بينما يستمر الوضع الإنساني والمعيشي في التردي في كل أجزاء البلاد.

 

 

 

 

 

بعد عامين ويزيد من الحرب في السودان، أُعلن عن تعيين رئيس وزراء، تمهيداً لتشكيل حكومة مدنية. وهو عملياً أول رئيس وزراء منذ انقلاب الجيش في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، حينما أطيح بحكومة عبد الله حمدوك، قبل عودة هذا الأخير وتوقيعه اتفاقاً يتيماً مع الجيش في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، ذلك الاتفاق الذي لم يصمد عاماً، ليتسيَّد الفراغ العريض المشهد، حتى انفجار 15 نيسان/ أبريل 2023.

 

 

 

يأتي تعيين رئيس الوزراء، كامل إدريس، بعد تحقيق الجيش تقدماً ميدانياً واسعاً، حيث استعاد السيطرة على جنوب شرق ووسط البلاد، بما في ذلك العاصمة الخرطوم، وانتقل ثقل المعارك غرباً، حيث تشهد مناطق كردفان المتاخمة لإقليم دارفور اشتباكات مستمرة، يتبادل فيها الطرفان السيطرة على مناطق حيوية، بينما يستمر الوضع الإنساني والمعيشي في التردي في كل أجزاء البلاد.

 

 

 

خلال عامي الحرب، تراجع أداء الجهاز التنفيذي للدولة بشكل غير مسبوق، سواء في المناطق التي لم تسقط في يد قوات الدعم السريع، أو في المناطق التي استعاد الجيش السيطرة عليها، إذ شرع الناس في تسيير أوضاعهم بالجهود الأهلية، وسط أوضاع صحية حرجة للغاية، إذ فتكت الحميّات والكوليرا بآلاف المواطنين. وباختصار يمكن القول إن جهاز الدولة شُلَّ تماماً، في وقت تمددت فيه وتوالدت بؤر الفساد.

 

مهمة محفوفة بالمطبات

 

 

تبدو مهمة رئيس الوزراء الجديد أشبه بالسير في حقل ألغام، وهي عسيرة جداً إن لم تكن مستحيلة.

ابتداء، ينبغي الأخذ بعين الاعتبار حيثيات اختيار الجيش لرئيس وزراء بمواصفات إدريس، فالرجل الذي تشرب خبرات المنظمات الأممية، مستقل سياسياً بشكل كامل، وهو خالٍ من أية حمولات تربطه بأية تنظيمات حزبية أو أيديولوجية. هذه الميزة هي التي جعلته خياراً مفضلاً للجيش، إذ تمكّنه من الوقوف على مسافة واحدة من الجميع بشكل حقيقي، وتمنحه أيضاً فرصة للاقتراب أكثر من الشارع الذي تراجع فيه تأثير القوى الحزبية. لكن هذه الميزة من جانب آخر تجعل سطوة الجيش عليه شديدة، وربما تُحوِّله إلى مجرد “خادم مطيع” لقادة الجيش. ومن الأهمية الإشارة إلى الحلم بحكم السودان، الذي ظل يراود كامل إدريس، ومساعيه الحثيثة المعلنة للوصول إلى ذلك. وقد سبق لإدريس الترشح في انتخابات 2010 منافساً ضعيفاً لعمر البشير وقتذاك، ثم تردد اسمه بعدما حلّ الفراغ، عقب استقالة عبد الله حمدوك في 2022. هذا الحلم بحكم السودان يجعل إدريس أكثر حرصاً على اغتنام الفرصة، وعليه، قد يقبل بأية صفقة مع قادة الجيش تبقيه رئيساً لوزراء السودان.

 

 

 

سيتعين على إدريس السباحة وسط أمواج متلاطمة، حيث صارت حكومة الجيش التي تتخذ من مدينة بورتسودان مقراً لها، عبارة عن مراكز نفوذ متعددة، أبرزها الجيش والقوة المشتركة. والجيش نفسه لا يمكن اعتباره مركز نفوذ موحداً بأية حال، فاختلاف التوجهات إزاء التفاوض مع قوات الدعم السريع خلق هوة بينة فيما بين قادة الجيش في وقت سابق، وهو أمر انسحب على الجهاز التنفيذي بشكل أو بآخر. وقد حفّز ذلك سياسة توزيع الإشراف على الوزارات التي انتهجها مجلس السيادة، ما جعل لقادة الجيش في مجلس السيادة مراكز نفوذ متضادة داخل الجهاز التنفيذي. وكان مجلس السيادة في وقت سابق قد وزّع الإشراف على الوزارات على قادة المجلس العسكريين، في محاولة منه لسد فراغ منصب رئيس الوزراء.

 

 

 

 

أما القوة المشتركة المكونة من حركات دارفور الموقِّعة على اتفاق سلام جوبا، وهي الحليف السياسي والعسكري الرئيسي للجيش، فقد أبدت اعتراضاً واضحاً على أية خطوة لتشكيل حكومة جديدة، وهو اعتراض صريح ومكتوم معاً، على الرغم من البيانات الدبلوماسية المرحِّبة برئيس الوزراء الجديد. ومصدر الاعتراض الحقيقي هو مخاوف هذه الحركات من فقدان وزارات ومواقع تنفيذية بعينها.

 

 

 

 

وزارة المالية والاقتصاد الوطني التي يشغلها رئيس حركة العدل والمساواة، جبريل إبراهيم، ويتبع لها عدد من المؤسسات والصناديق الإيرادية، التي صارت مرتعاً لكوادر الحركة، قد لا تكون من نصيبهم في التشكيل القادم. وقد عبَّرت الحركة عن رفضها المساس بهذه المواقع، واعتبرته انتهاكاً لاتفاق جوبا، مع العلم أن اتفاقية سلام جوبا 2020 حددت حصة معينة للحركات المسلحة، لكنها قطعاً لم تسمِ وزارات بعينها. وتوزيع هذه الوزارات بعينها، كان نتيجة تفاهمات داخل تحالف “الحرية والتغيير” وقتها، ولا يعتبر ملزماً بأية حال من الأحوال.

 

 

 

 

أما حركة جيش تحرير السودان، التي يقودها مني أركو مناوي، وهي تمثّل النسبة الأكبر من القوة المشتركة، وتشغل موقع حاكم إقليم دارفور ووزارة المعادن، فقد أبدت اعتراضها مبكراً، بحجة أن الوضع العسكري والحربي الحالي لن يُمكِّن أية حكومة مدنية من العمل بحرية، وأنها ستكون حكومة “مهيضة الجناح”، وفقاً لحديث مناوي إبان المشاورات حول تعيين رئيس وزراء. وتمثل حركتا العدل والمساواة وجيش تحرير السودان العمود الرئيسي للقوة المشتركة، إلى جانب بعض الحركات التي طالها الانقسام على طرفي الحرب، أي الجيش والدعم السريع.

 

 

 

 

هذه المواقف السياسية الرافضة، قد تعزز من مخاوف أن يؤثر هذا الرفض على التحالف العسكري بين الجيش والقوة المشتركة، وينسحب بالتالي على الوضع العملياتي. وهذا تأثير خطير. فالتحالف بين الجيش والحركات هو تحالف مهم جداً، وفاعليته واضحة في ميدان العمليات، إلا أنه قائم بالأساس على حصد المكاسب.

 

 

 

 

سيواجه إدريس خراباً كبيراً في قطاع الخدمات، بميزانية محدودة للغاية، وسط استشراء واسع للفساد، إذ إن الميزانية موجهة للعمليات العسكرية، التي لا تزال مستعرة في كردفان ودارفور. وفي الأساس كانت ميزانية البلاد طيلة السنوات الماضية موجهة بشكل كبير إلى بندي الأمن والدفاع، وخلال عامي الحرب تحولت الميزانية بشكل شبه كلي إلى الصرف العسكري.

 

 

 

 

ما الذي يريده الجيش؟

على الرغم من أن تصريحات قادة الجيش في مجلس السيادة تحاول التأكيد أن دوافع تشكيل حكومة في الوقت الحالي هي التحول المدني الديمقراطي، إلا أن هذا الحديث يصبح غير منطقي، ولا معقول، بالنظر لواقع الحرب المستمرة في البلاد، إلا إذا كان هناك توجه فعلي نحو إنهاء الحرب واستئناف ما انقطع من تفاوض مع قوات الدعم السريع، برعاية أمريكية وسعودية. أما خلاف ذلك، فليس ثمة تحول مدني تحت دوي البنادق، لكن ليس بعيداً عن ذلك، فإن أحد أهم الأسباب التي دفعت الجيش لتعيين رئيس وزراء مدني هو اتخاذ خطوة نحو الخروج من عزلة انقلاب أكتوبر 2021 ، حيث علق الاتحاد الأفريقي عضوية السودان واشترط لعودتها تشكيل حكومة مدنية، وهذا مقروء من أول تصريحات لرئيس الوزراء حول إطلاق حوار سياسي شامل.

 

 

 

 

وإن تولّى إدريس هذه المهمة السياسية الشائكة، فلا شك في أنه سيغرق كلياً في هذا البحر، ولن يجد ساحلاً. فإلى جانب التعقيد الشديد الذي آل إليه المشهد السياسي، جراء الاصطفاف الصارخ، والتشظي الحاد، وتراجع تأثير القوى السياسية مع صعود سطوة المجموعات المسلحة، الجهوية والمناطقية… إلى جانب كل ذلك، فإن إجراء حوار شامل قبل أي اتفاق سلام يوقف صوت البنادق يصبح تبديداً للوقت ليس إلا.

 

 

 

 

كل هذا يجعل المناخ الذي سيعمل فيه رئيس الوزراء محاطاً بالعواصف والزوابع، مما يقلص كثيراً من فرص نجاحه. لكنها ليست منعدمة بأية حال. فإن انصرف كامل إدريس إلى المهام التنفيذية المباشرة، وتحديداً إلى الاهتمام بقطاع الخدمات الأساسية، فسوف يتمكن من تحقيق اختراق، ولو أنه محدود للغاية، لمصلحة المواطنين.

 

 

 

 

لكن السؤال الجوهري، هو ماذا يريد الجيش من رئيس الوزراء الجديد؟، وما حدود صلاحياته فعلاً لا قولاً؟، وهل هناك رؤية واضحة وخطة بينة الملامح ومحددة الأهداف سوف يسير عليها كامل إدريس، في الطريق المرسوم له، من دون أن ينحرف يميناً أو يساراً، ومن دون أية محاولات تخطّي وتجاوز؟. أما إذا كانت الرؤية غير واضحة، وصار الأمر خاضعاً للاجتهادات، ومحاولات الترقيع، واعتماد “رزق اليوم” كما هو شائع في الساحة السياسية في السودان، فقطعاً سوف يلحق إدريس بالذين سبقوه، قبل أن يجف حبر توقيعه على أول قرار.

المصدر: السفير العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.