بقلم- عزمي عبد الرازق- خلال جولتي الأخيرة في بعض أقسام مشروع الجزيرة، كانت الحواشات في غاية الإهمال، تشبه رجلاً عجوزاً ضلّ طريقه إلى الماء؛ يقف عند حافة الترعة، يتلفّت، بينما الحشائش ترتفع فوقه، تغطيه بالكامل. المزارعون – أولئك الذين ينهضون قبل طلوع الشمس– كانوا يغرسون أرجلهم في الطين بأيديهم لا بآلاتهم؛ لأن البوابير عطشى للوقود، وقنوات الري تختنق بالأعشاب حتى صارت تُنزع بالأكفّ لا بالآليات، بالمناجل تحديداً، وهو ما لم يحدث أيام الانجليز الذين صنعوا هذا المشروع، لا الحكومات الوطنية.
أما المحافظ إبراهيم مصطفى، الذي جاء بالصدفة إلى هذا الموقع، فقد اختار العيش في مدينة بورتسودان، نائماً في العسل، يتقلب على سرير بارد ويضع إحدى قدميه فوق الأخرى، كما لو أن مشروع الجزيرة بمثابة المزرعة السعيدة في “الفيسبوك” أو فيلم بايخ يُعرض في قناة لا يشاهدها أحد. همه كله جباية الرسوم، وتحصيل الأتاوات، وتسليم الخراج لوزارة المالية، بينما يفترض أن يحدث العكس، أن تتحرك المالية إلى الجزيرة بكل تقدير، تحمل اعتذارها للمزارع لا أن تنتزع آخر ما في جيبه مثل قاطع طريق.
خمسون ألف جنيه للفدان، «جزية» تُحصَّل عبر شركة الهدف، لا نعرف أين تذهب ملايين الدولارات؟ المزارع يدفع، ثم يدفع، ثم يدفع بالإكراه، ولا يسمع في المقابل إلا صوت الحشائش وهي تسخر منه. الترع مكتظة، والمياه محبوسة خلف جدار الطمي، والبوابير مكسّرة، بينما الإدارة تتحدث عن خطط «مرحلة ما بعد الحرب». أي خطط؟ تلك الخطط ترقد الآن فوق ظهر حيوان «أبو القدح»، تتحرك ببطء قاتل، تجرّ ذيلها ما بين الجدول والسرابة.
المحافظ – يا سادة – يبيع الوهم لمجلس السيادة. يقول لهم: سنزرع 400 ألف فدان قمح هذا الموسم. يبتسم بثقة رجل باع البحر لأهله. بينما الحقيقة ” طوريتك فى الطين مرمية وكوريتك يابسة ومجدوعة ·. لا غيبتك كانت مرضية ولا فوتك كانت مبلوعة” لقد هجر الشباب الزراعة، اختار الكثير منهم ديار الغربة، المساحات الكثير منها زُرعت بالعدسية والكبكبي لانعدام التمويل، وما تبقى للقمح لا يتجاوز 80 ألف فدان معظمها في المناقل، وفقاً للزميل الفلّاح أيوب ود السليك، هذا الرقم وحده كفيل بوضع حد لمسرحية التضليل التي يقدمها المحافظ مع فرقة «الطبل النشاذ»، أولئك الذين يقلبون الهزيمة انتصاراً، ويغسلون عار الفشل بالمباخر.
دعك من شركة السودان للأقطان، أيام الصرف الفردي وزيارة المكاتب، وعيد المزارع، ذكريات الأهل التي ماتت بمرور الزمن، وقد توقفت تلك الشركة أيضاً عن دورها الحقيقي، في التمويل والتسويق، وهى اليوم عبارة عن جثة كبيرة هامدة، أشبه بـ”جوالات الكِِبس”، التي كان يكبس فيها القطن.
أما المحافظ، الذي صنعته الصدفة، لا أعرف لماذا نحتفظ به؟ فهو يتحدث عن «تكوين جمعيات» و«تنظيمات» و«روابط».
يا رجل… التمويل قبل التكوين، والقوت قبل البصمة، والقمح أهم من ألف جمعية لا تسمن ولا تغني من جوع، الكثير من قيادات المزارعين خارج البلاد، الأرض المنسبة تنتظر من يفتح باب التمويل لا من يعقد اجتماعاً آخر لالتقاط صورة زائفة بالجلابية والشال المُطرز.
مشروع الجزيرة اليوم حزين، يكفي حال هذه التُرع، الكنارات المُهملة، وقد تحول _ كما ترون في هذه الصور_ إلى غابة من المسكيت واللعوت، الترع مسدودة، المياه تكسرت في البواير، ثمة مشكلة في التحضير، المواقيت، الزراعة كما يقول أهلنا مواقيت، الأراضي المزروعة تصرخ ولا أحد يسمع. ومع ذلك يتحدثون عن «المستهدف» و«الخطة» و«الرؤية».
يا سادة.. انزلوا إلى الأقسام، الترع، بين التقانت، لتغرق نعالكم قليلاً في الطمي، إن لم يجف أيضاً، وبعدها تحدثوا كما تشاؤون.
كان مشروع الجزيرة أضخم مشروع مروي في الدنيا، الماء يأتي إليه من خزان سنار وينام في آخر سرابة بلا مشقة. الآن أصبح مجرد عيادة طوارئ تُدار بالمسكنات، بينما العلة تمشي على قدمين.
السؤال الذي ينهض مثل رمح في وجه الجميع:لماذا نحتفظ بالمحافظ؟
ما جدوى رجل لا يرى المزارعين، ولا يسمع صوت الترع، ولا يعرف شكل الحشائش التي تبتلع الماء؟ رجل يتحدث كثيراً ولا يقول شيئاً، يجلس في بورتسودان أكثر مما يجلس في قلب المشروع؟ رجل يضلّل الحكومة، ويبيع لمجلس السيادة «صورة جوية» لا علاقة لها بالأرض؟
مشروع الجزيرة يحتاج إلى رجل وطني عنيد، ود مزارع أغبش، يعرف الطريق إلى الغيط، يشم التراب ويقرأه مثل صحيفة ورقية. يحتاج إلى باشمفتش قوي، إلى هندسة رَي، إلى بنك للمزارعين لا يدخل عليه تاجر أو سمسار، إلى اتحاد يُنتخب بحرية لا بالشراء السياسي.
مشروع الجزيرة استُهدف ودُمّر، وما زال يُساق إلى مقبرته بلا مقاومة. ولكن من الذي سيملك الشجاعة ليقول… كفى؟ أقيلوا هذا المحافظ، أعيدوا الاعتبار لهذا المشروع العملاق، عزيز قوم ذُل.
